شي تقاعد وشي تعاقد
مع
إحدى القنابل الموقوتة التي تركها بنكيران خلفه بعد مغادرته للحكومة هي ملف المتعاقدين.
فالرجل لم يغادر رئاسة الحكومة إلا وابنته موظفة في الأمانة العامة للحكومة عندما كان يرأسها الضحاك الذي نزل بمستوى الوزارة إلى الحد الذي صار معه يحمل الملفات الحكومية إلى بيت بنكيران. وابنه صاحب مكتب محاسبة “شغال” في حي الرياض الراقي، وابنه في باريس يستكمل دراسته وتداريبه بفضل المنح التي صرفت له.
أما وضعيته الشخصية فقد “جاهد” في سبيل ضمان تقاعد مريح لنفسه، فيما ترك وراءه جيشا من الشباب المتعاقدين في التعليم يشتغلون وفق عقد يمكن أن تفسخه الوزارة في أي وقت.
واليوم، وفِي الوقت الذي يطل فيه بنكيران من حساب سائقه في الفيسبوك ليثرثر حول “الخراب” الذي سيلحق بالتعليم إن تم التخلي عن اللغة العربية في التدريس، كأني به قد ترك التعليم عندما غادر الحكومة وهو روضة من رياض الجنة فيما هو اتخذ أغلب القرارات التي خربت التعليم، وعلى رأسها التوظيف بالعقدة، بدليل ملايين التلاميذ المحرومين منذ الاثنين الماضي من حقهم في التعليم.
فبنكيران يعتقد أن المغاربة نسوا كيف كان مهووسا بتمكين عشرات “الإخوة” المالكين للمدارس الخصوصية على المستوى الوطني من امتيازات في إعادة جدولة ديونهم لصندوق الضمان الاجتماعي، وهي ديون بالملايير، بل وتمكينهم من موارد بشرية “رخيصة” في إطار ما يعرف بمشروع تكوين عشرة آلاف مدرس، وهو البرنامج الذي نتجت عنه أول قنبلة اجتماعية، لكون خريجي هذا المشروع وجدوا أنفسهم عرضة للبطالة، لكون زملاء بنكيران في القطاع الخاص لم يشغلوا أحدا قط.
إن الشلل الذي يضرب التعليم هذا الأسبوع بسبب إضراب أساتذة التعاقد، والذي أدى إلى حرمان ما يفوق مليوني تلميذ أغلبهم في العالم القروي، إنما هو شلل ناتج عن قرار اتخذه بنكيران في أيامه الأخيرة كرئيس حكومة.
فإذا تذكرنا الأزمة التي سببها في قراره فصل التوظيف عن التكوين، والذي أدى إلى أزمة ما عرف بـ”الأساتذة المتدربين”، وقمنا بربطها بالأزمة الحالية للأساتذة المتعاقدين، فإننا نستنتج أن آخر شخص يحق له أن يقدم الفتاوى في التعليم هو بنكيران تحديدا.
فمباشرة بعد انتخابات 2016، وعندما كان بنكيران ينتشي بفوزه العددي ممنيا النفس بالبقاء رئيسا للحكومة لفترة أخرى، لم يفكر حينها ولو للحظة بأن التلاميذ المغاربة قد دخلوا تلك السنة الدراسية بأقسام تجاوزت السبعين تلميذا في القسم، قبل أن يبادر لاتخاذ قرار ارتجالي ها نحن نرى كيف أن ملايين الأطفال المغاربة يدفعون ثمنه الآن، وهو التوظيف المباشر لأساتذة كمتعاقدين وتعيينهم بدون تكوين نهائيا.
حينها نبهنا مرارا إلى خطورة هذا القرار، ليس فقط لانعدام تكوين هؤلاء المتعاقدين، بل لأننا قلنا بأن التوظيف بالتعاقد هو قنبلة اجتماعية وسياسية ستدمر ما تبقى من معنى في التعليم العمومي، حينها قلنا بأن هذا النوع من التوظيف وقياسا للعديد من المعطيات التي يحملها نص القرار الحكومي يحمل جميع مواصفات العبث، ومنها أن الأكاديميات التي أُوكِل إليها تدبير توظيف المتعاقدين غير مؤهلة إداريا لهذا النوع من التوظيف، والدليل هو أن العديد من مديري الأكاديميات اضطروا للاستعانة بشركات خاصة لفحص ملفات المتعاقدين إداريا وماليا.
ووجه العبث هنا هو أن الدولة نفسها التي تدفع الرواتب سواء في التوظيف التقليدي أو في التوظيف بالعقدة، وبالتالي لا جدوى أصلا من التعاقد، وإلا ما الفرق بين أن يحصل مدرس على راتبه من وزارة المالية أو أن يحصل عليه من ميزانية الأكاديمية بعد أن تحصل عليه هي نفسها من وزارة المالية؟ ما الغاية من هذه الوساطة من الأساس؟
بعض المتحمسين للتعاقد، بمن في ذلك من داخل حزب العدالة والتنمية، بدليل ما جاء في نص البلاغ الأخير للأمانة العامة لهذا الحزب، يعتبرون التعاقد شرطا للحفاظ على ثقافة الواجب، مستدلين بمعطيات سطحية من قبيل أن المتعاقدين أكثر التزاما من الرسميين من ناحية الانضباط المهني، فيما الحقيقة هي أن العقود التي وقعها هؤلاء مكتوبة بلغة استعلائية شبيهة بلغة عقود الإذعان. فمثلا لا يحق للأستاذات اللائي أنجبن أن تتجاوز عطلة الأمومة لديهن ثلاثة أشهر، ومهما كان وضعهن الصحي، إذ إن طلبهن للتمديد، مهما كان مشفوعا بشهادات طبية فإنهن يطردن. وأيضا يمنع على المتعاقدين اجتياز مباريات التوظيف العمومي تحت طائلة المنع النهائي من الوظيفة بمجرد مغادرة مهنة التعليم، بمعنى أنه من دخل مهنة التعليم بالتعاقد فإن كل المناصب تصبح محرمة عليه، بما في ذلك الالتحاق بالجامعة.
والأمر نفسه بخصوص الترقية بالشهادة والامتحانات المهنية فهي محرمة نهائيا. أما نظام التقاعد فتلك كارثة أخرى، ذلك لأنه قد يشتغل الموظف ثلاثين سنة كاملة وعندما يتقاعد فإن راتبه لن يتجاوز ثلاثة آلاف درهم، “سمع أمول عندي غي سبعة دلمليون فالتقاعود”.
يضاف إلى هذا أنه لا يحق لأي مدرس أن يرفض تدريس مادة بعيدة عن تخصصه أو السلك الذي وظف فيه، فنجد المئات تم توظيفهم كأساتذة التعليم الابتدائي أجبروا على التدريس في التعليم الثانوي، وكل من رفض يعزل فورا، مع رفع توصية لوزارة الوظيفة العمومية بإدراج اسم الأستاذ المعزول ضمن لائحة إلكترونية سوداء تحرمه من وظائف أخرى إلى الأبد.
بل الأسوأ من هذا هو أنه في حالة الوفاة، كما حدث في طنجة قبل أسابيع، فإن أسرة الأستاذ المتعاقد المتوفى مجبرة على إرجاع الراتب إن كان في فترة عمل أو إرجاع مبلغ المنحة إن كان في فترة تدريب. “كان باقي ليهم غي شوية ويفرضو ذعيرة على المتعاقد اللي غادي يموت قبل الوقت”.
هذه إذن هي القنبلة الموقوتة التي خلفها وراءه بنكيران قبل مغادرته للحكومة والتي انفجرت في وجه الدولة هذه الأيام. والمصيبة أن الأخ العثماني عندما جاء لم يعمل قط على مراجعة هذه العبودية المعاصرة، ليعطي لعشرات الآلاف من الأساتذة الأمن المهني المطلوب في عملهم، بل عمل على رفع أعداد المتعاقدين ليصل اليوم إلى أكثر من 70 ألف متعاقد يشتغلون ضمن شروط من الضغط النفسي الرهيب والذي يمارس عليهم يوميا، إذ إن التعاقدات تجعلهم غير متأكدين من كونهم سيعودون لمقرات عملهم في الغد أم لا لكون قرار الطرد سيفا يوجد فوق رؤوسهم ويمكن أن يسقط في أية لحظة، كما حدث في حالة أستاذة في إيفران حصلت على رخصة رسمية لزيارة أمها لتجد نفسها مطرودة، دون حتى اتباع المسطرة القانونية المعمول بها.
وعندما نقول إن بنكيران ترك قنبلة، فلأن بوادر سنة بيضاء باتت تلوح في الأفق، فالأساتذة مضربون وملايين التلاميذ في العالم القروي عرضة للتحرش والجوع والتسكع في أرجاء المدارس، وإلى حدود الآن لا يبدو أن كلمات وزير التعليم في ندوته الصحفية التي أكد فيها تشبثه بالتعاقد، مع الحرص على تطويره، ستعيد المتعاقدين إلى فصول الدراسة.
ويتزامن هذا مع الامتحانات الموحدة التي توجد على الأبواب، وملايين الأسر حائرة، بين الإبقاء على الأبناء في المدارس العمومية حيث لا يوجد الأساتذة أو تنقيلهم وسط السنة الدراسية إلى مدارس خاصة، ويا ليتهم يجدون لهم مقعدا شاغرا.
الوجه المأساوي لكل ما يحدث، وفي نفس سياق كلام بنكيران في خرجته الأخيرة ليوم السبت الماضي، فالرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم انطلق العمل بها في 2016، بمعنى أنه كان يفترض أن بنكيران سيأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن نظام التعاقد سيؤدي إلى أن يفقد هذا الإصلاح تعاطف وانخراط الموارد البشرية، وإلا هل يمكن لبنكيران نفسه أن يقبل عمل ابنته، التي تشتغل مطمئنة في منصبها الحالي، أن تشتغل كمتعاقدة؟ بل هل لأي من القيادات الوطنية أو الجهوية لحزبه أن تقبل لأبنائها العمل كمتعاقدين؟
مشكلة بنكيران أن له ذاكرة انتقائية تجعله “كيعقل غير على اللي بغا”، لكن المغاربة لن ينسوا أبدا أنه هو من فرض على عشرات الآلاف من أبنائهم التعاقد، وهو من فرض على الموظفين منهم أن يصلحوا صندوق التقاعد من جيوبهم باقتطاعات وصلت إلى ألف وخمسمائة درهم شهريا.
وهو من حذف دعم المقاصة عن المحروقات، فأحرق جيوبهم وكدس الأرباح في جيوب شركات المحروقات.
والمضحك أن بنكيران يصر على تقديم كل هذه الكوارث كمنجزات تحسب له، فيما حتى جدتي تعرف أنه لم يصنع سوى تطبيق تعليمات صندوق النقد الدولي بالحرف، حتى يستمر في الحصول على القروض التي أغرق فيها البلاد وحرمها من قرارها المالي والاقتصادي.
لهذا كله كان يجدر بالأساتذة المتعاقدين أن يحتجوا أمام منزل بنكيران وليس أمام البرلمان، فقد أخطؤوا المكان.
كما أنهم لا يجب أن يسمحوا لتجار الأزمات والراكبين على معاناة الشعب أن يستغلوا ملفهم لتصفية حساباتهم مع الدولة والنظام، إذ لا يجب عليهم أن يخطئوا المعركة بعدما أخطؤوا مكان الاحتجاج.