من ضوء السلطة إلى العتمة.. رجال البصري ماذا يفعلون الآن؟
مع
لم تمر سوى ساعات قليلة على إعفاء إدريس البصري من مهامه على رأس أكبر جهاز دولة، حتى طلبت الجهات العليا في المغرب بمعلومات حول الشخصيات التي ارتبطت بعلاقات خاصة مع الوزير القوي الذي أقيل من منصبه.
ركز البحث السري على الشخصيات التي لا تزال تشغل بعض المواقع المهمة في الإدارات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص أيضا، سعيا منها إلى تفكيك ما وصفته الصحافة بـ «دولة» البصري، الوزير الذي ظل نفوذه يطول كل مرافق الدولة المغربية قرابة ربع قرن من الزمن.
لتفكيك ما سمي بـ «دولة» البصري تارة، و«جنوده» تارة أخرى، شرعت الحكومة في إطلاق حركة تعيينات واسعة النطاق، همت كبار موظفي وزارة الداخلية والعمال والولاة ومدراء مؤسسات عمومية وشبه عمومية وخصوصية أيضا، وكل من تنبعث منه رائحة «البصري».
بدأت عملية التمشيط برئيس ديوان الوزير، مصطفى بن كيران، وعثمان بوعبيد مدير مكتب البصري، وأبعد إدريس التولالي الذي كان يقود الحوار مع النقابات والأحزاب السياسية، وعبد العزيز علابوش الذي تولى لفترة طويلة إدارة جهاز المخابرات الداخلية. وشملت العملية ولاة على غرار والي الدار البيضاء حسن أوشن ووالي طنجة حمودة القايد ووالي سطات عبد الفتاح مجاهد ووالي فاس عبد الكريم العروسي.
في هذه الفترة، كان البصري معتكفا في بيته بالرباط، لايزوره إلا قلة من أصدقائه، ومع مطلع كل يوم تصله أخبار سقوط رجالاته تباعا، حينها
تبين أن المخزن لا يؤمن بالاستمرارية عند الإبعاد، فالقطع مع حقبة معينة يفرض اجتثاث جذورها، سيما وأن البصري كان يعتمد على أجهزة في الظل وأخرى في الواجهة، وكانت له عيون وآذان في ربوع التراب الوطني تشتغل بطرق تبدو تقليدية لكنها فعالة.
في الملف الأسبوعي، نعود لزمن البصري، ونزيح طبقات الغبار عن أشخاص مسكوا وتحكموا في خيوط الجهاز المتشعبة، ونبحث عن حياتهم وهم خارج دائرة الضوء.
بن حبريط.. مدير مكتب البصري وعامل طنجة يتعايش مع التقاعد والمرض
يروي الدكتور لحسن بروكسي في مذكراته عن الخطط التي كانت تعدها وزارة الداخلية لمعاقبة العديد من الولاة والعمال، الذين حادوا عن الطريق أو ارتكبوا خروقات خلال ممارسة عملهم، وتحدث عن إنجاز وزارة الداخلية «لائحة سوداء» بأسماء الولاة والعمال الذين غضبت منهم الإدارة المركزية.
كان إدريس البصري، وهو حينها مجرد كاتب للدولة في الداخلية، سعيدا وهو يتابع في ساعة متأخرة من الليل التقارير السرية الواردة عليه، وبين الفينة والأخرى يثني على المفتشين أو يطلب المزيد من التوضيحات.
في ظل هذه الفترة، تلقى محمد بن حبريط العامل السابق على إقليم طنجة بشكل مفاجئ قرار إنهاء مهامه وإلحاقه بوزارة الداخلية، جرى خلاف بينه وبين البصري، بسبب قصة قطعة أرضية بأكدال اشتراها الرجلان، قبل أن يكتشف إدريس أن شريكه أدى ثمنها لوحده وسجل ملكيتها دون إشعار مسبق، وحين التحق بالوزارة كلفه البصري بأبشع المهام، أي الإشراف على رجال السلطة، في هذه الظرفية كان الجميع يتضامن مع بن حبريط الذي عرف بالوجدي الجاد، الذي نادرا ما يضحك خلال أداء مهامه.
ولأنه من النادر في تلك الظرفية، أن تصادف عاملا حاول مواجهة رئيسه المباشر، فقد باشر بعض كبار المسؤولين محاولات تقريب وجهات النظر وتذويب الخلاف، بل إن البعض منهم تدخل لدى بنهيمة وزير الداخلية لرأب الصدع، مستغلا فرصة تقديم تقرير مفصل حول مديرية الشؤون العامة، نال إعجاب الوزير، قبل أن يعرضه على الملك الحسن الثاني، إذ استثمر رفاق بن حبريط هذه الحظوة، وتدخلوا لدى بنهيمة من أجل تذويب الخلاف بين السي إدريس والسي محمد، خاصة أن هذا الأخير عانى الكثير من غضبة إدريس. وعلى الفور قبل ملتمسه الذي اعتبره مناسبة لإعادة البصري إلى نقطة الصفر، قبل أن ينجح في مساعيه ويتدخل بخيط أبيض في النزاع الذي نشب بين الرجلين، ويعيد الأمور إلى نصابها.
غادر الرجل وزارة الداخلية واختار المغادرة الطوعية والاسترخاء بعيدا عن شجونها، خاصة وأن المرض تربص به، بل إن الأوجاع كانت نتيجة حتمية للضغط الكبير الذي عاشه مع البصري.
بن هاشم.. ظل بمنصبه خادما للسلطة إلى أن أعفي بسبب بيدوفيل
ولد حفيظ بن هاشم سنة 1936 بقبيلة كروان التابعة إداريا لدائرة بوفكران ضواحي مدينة مكناس. وعلى الرغم من ولادته داخل وسط قبيلة أمازيغية، إلا أن أصوله تعود إلى مولاي علي الشريف لذا يصنف في خانة الشرفاء العلويين وهو ما يبرر لقب «مولاي» الذي ارتبط باسمه. وعرف الفتى بميولاته السياسية إذ انخرط مبكرا في الشبيبة الاستقلالية وكان عنصرا أساسيا في الكشفية، وعرف عنه قربه من القيادات الكبرى للحزب، علما أنه اعتقل في أحد سجون الأحداث وعمره 13 سنة من طرف سلطات الحماية الفرنسية، واعتبر من أصغر المعتقلين السياسيين. لكن بن هاشم قطع الصلة مع العمل السياسي كمنخرط في حزب الاستقلال بعد الحصول على الاستقلال، إلا أنه ظل قريبا من السياسة حين تحول إلى مسؤول أول عن الاستعلامات العامة في الداخلية بدعم من البصري الذي تعرف عليه هو وعلابوش حين كانا في سلك الأمن.
في سنة 1960 قرر حفيظ ولوج الشرطة، وبحكم انتمائه لحزب الاستقلال وشبيبته، فقد لعب الاستقلالي محمد الغزاوي مدير الأمن الوطني، دورا كبيرا في تعيين حفيظ في هذا القطاع، إذ قبل مغادرته في سنة 1960 جهاز الأمن، سيتدرج حفيظ في سلاليم الشرطة إلى أن يصبح مديرا عاما لهذا الجهاز سنة 1997.
وعرف عن حفيظ حرصه على كتم السر المهني، لذا تحول من شرطي إلى ضابط في الأمن، قبل أن يلتحق بوزارة الداخلية حيث اشتغل في قسم الشؤون السياسية، مع أحمد بن بوشتة، الوزير المؤقت الذي خلف محمد أوفقير، ومحمد بنهيمة وإدريس البصري الذي قضى معه في أم الوزارات فترة طويلة.
شاءت الصدف أن تتزامن الدراسة الجامعية لإدريس البصري مع متابعة حفيظ بن هاشم لتعليمه الجامعي، بل إن القدر شاء أن يسجل الشابان معا في نفس كلية الحقوق بالدار البيضاء وبنفس الشعبة أي العلاقات الدولية، وهو ما دفع بهما إلى العمل التضامني سواء في حضور المحاضرات، أو كتابة الدروس، بل إن البصري كان يكتب مداخلات الأساتذة على ورقة يضع تحتها ورقا ناسخا (كاربون) أثناء تحضيره للإجازة، وحين يعود إلى بيته يحتفظ بالنسخة الأصلية ويمنح النسخة الكاربونية لزميله حفيظ الذي يتردد عليه لأخذ الدروس التي تعذر عليه حضورها. ففي منتصف الستينات لم تكن الكليات قد شرعت في استعمال الآلات الناسخة، مما دفع بالبصري إلى اختراع النسخ الكاربوني للمحاضرات.
حين كانت وزارة الداخلية تعيش حالة استنفار استعدادا للمسيرة الخضراء التي أطلق عليها في القسم السياسي اسم «عملية فتح»، كان مولاي حفيظ يشرف تحت إمرة البصري الكاتب العام للوزارة على تفاصيل هذا الحدث الكبير المحاط بسرية تامة. كما أن الرجل أنجز تقارير حول مستوى الاستنفار في كل عمالة، وكان يفضل كتابة التقارير بالرقن على آلة كاتبة مساهمة في التحضير اللوجستيكي للمسيرة الخضراء. بل إنه وضع الخطوط العريضة للدورة التكوينية التي خضع لها عدد كبير من أطر وزارة الداخلية في معسكر بن جرير استعدادا للحدث. وانتدب بنهاشم إلى جانب بعض أطر وزارة الداخلية للقيام بمسيرة تجريبية سرية إلى الصحراء، وزار إذاعة طرفاية التي تم إنشاؤها لهذه الغاية.
رغم إقالة البصري إلا أن حفيظ بنهاشم ظل في السلطة كمندوب سامي لإدارة السجون وإعادة الإدماج سابقا، لكنه أقيل من منصبه على رأس المندوبية، على خلفية قرار العفو الملكي عن بيدوفيل القنيطرة دانيال كالفان، ولم يحل على التقاعد وفق أحكام الوظيفة، بل نال تقاعدا استثنائيا فاق 65 ألف درهم شهريا.
عمال البصري الأولون: بين المغادرة الطوعية والجبرية
كون وزير الداخلية السابق إدريس البصري تشكيلة قارة من العمال والولاة، لا تقبل التعديل إلا عند الضرورة القصوى، وغالبا ما يحرص أقوى وزير في عهد الحسن الثاني على الإبقاء على نواته الصلبة في الإدارة الترابية ويكيف التعيينات على رأس الولايات والعمالات والأقاليم، وفق معطيات تتداخل فيها المصالح مع أمن الدولة. ولأن الدار البيضاء هي قطب الرحى فقد عمل ابن الشاوية على إسناد أمورها إلى رجال ثقة، لأنها المدينة التي تلد ذهبا. فمنذ التقطيع الجديد للعاصمة الاقتصادية، على خلفية أحداث يونيو 1981، عين البصري «ثقاته»، فوضع أحمد شوقي لمدة طويلة على رأس عمالة عين السبع الحي المحمدي، قبل أن يسند إليه أمور عمالة إقليم خريبكة والجديدة، ووضع مصطفى العلمي على رأس عمالة ابن مسيك سيدي عثمان وعبد العزيز لعفورة في عمالة عين الشق الحي الحسني أولا، ثم عمالة عين السبع الحي المحمدي بعدما قضى فترة على رأس إقليم بن سليمان وعمالة المحمدية، وحسن الرحموني بالمحمدية وبالحي الحسني، وكان للبصري رجالات راكموا تجربة طويلة في الإدارة الترابية أغلبهم لهم انتماءات من الشاوية على غرار الوالي حمودة القايد، الذي اختار الاستقرار في أرض أجداده بضواحي فضالة حيث يمارس هواية القنص، والوالي أحمد مطيع القادم من الجمارك والذي يشده الحنين إلى ضيعته في سطات، ناهيك عن أسماء أخرى ظلت أساسية في تشكيلة العمال كعبد الكبير بوعسرية في إقليم بن سليمان وعبد الفتاح مجاهد في ولاية سطات وإدريس العموني في عمالة المحمدية، مع امتدادات إلى الجنوب وتحديدا بأكادير في شخص عبد الكريم لعروسي وأحمد أمجاد.
من بين هؤلاء من اختار التقاعد النسبي ومنهم من أحيل مبكرا على التقاعد ومنهم من استقر في البادية واهتم بالفلاحة، ومنهم من انتقل إلى عفو الله بعد أن قضى آخر أيامه مفلسا، فيما استمر آخرون إلى ما بعد رحيل البصري قبل أن يداهمهم التقاعد.
إدريس التولالي صديق البصري ينهي مساره في القطاع الخاص
كان بإمكان الشاب إدريس التولالي الحصول على وظيفة رجل أمن برتبة ضابط أو دركي أو مدرس أو كاتب في إحدى الإدارات، أو غيرها من المناصب التي كانت أحوج إلى من يعزز صفوفها، وكانت أسرته أيضا أحوج إليها على الأقل لتقول للفقر وداعا، وقد اختار الكثير من أصدقاء التولالي أقصر الطرق لتجنب المعاناة، لكنه أصر على الاستمرار في رحلة الألف ميل التي ابتدأت من مدرسة الهديم بمكناس.
ونظرا للتفوق الذي أبداه الفتى اليافع إدريس في المجال الدراسي، وخاصة في مادة اللغة الفرنسية، فقد شجع هذا المعطى مدرس المادة فرنسي الجنسية على تبني قضية التولالي على المستوى الاجتماعي، نظرا لما لمسه فيه من رغبة في تحدي الخصاص، وساعده في الحصول على منحة شهرية تساعده على استكمال المشوار.
في سنة 1956 حصل الفتى على شهادة الدروس الثانوية أو ما يعرف حينها بـ «البروفي»، تزامن ذلك مع حصول المغرب على الاستقلال وما ترتب عن هذا الوضع من تغيير جذري على مستوى تدبير المنظومة التعليمة، مع انتقال السلطات من الفرنسيين إلى المغاربة والصعوبات التي رافقتها.
بفضل تدخل من حسن الزموري كاتب الدولة في الداخلية آنذاك، الذي كانت تربطه علاقة مصاهرة مع عائلة عم التولالي، تم استقباله من طرف ناصر الفاسي، أول سكرتير عام لقطاع التعليم في عهد الاستقلال الذي ساعده على استكمال دراسته.
تمكن التولالي من السير إلى أبعد نقطة في مساره، وتدخل الزموري مرة أخرى لتشغيله في وزارة الداخلية، حيث تقلد العديد من المناصب العليا من خلال ظهائر تعيين في فترة حكم الملك الراحل الحسن الثاني والملك الحالي محمد السادس، إذ عين وزيرا للإسكان وعضوا في المجلس الإداري لمؤسسة محمد الخامس للتضامن، ثم عاملا وواليا ورئيس قسم الشؤون القروية وقسم الجماعات المحلية بوزارة الداخلية وغيرها من المسؤوليات السامية التي يصعب حصرها، والتي نال على إثرها ثلاثة أوسمة استحقاق في عهد الملك الراحل الحسن الثاني.
في عهد البصري كان يشرف كذلك على سير المجالس البلدية، وتولى في آخر أيامه إدارة البنك الذي يمول مشاريع المجالـس البلدية، وحين شعر بإبعاده تدريجيا عن منطقة الوجاهة السياسية، فضل الاشتغال في القطاع الخاص كمهندس دولة.
بروكسي.. مستشار البصري منهمك في كتابة تاريخ الزوايا
يقول لحسن بروكسي، أحد أبرز مستشاري إدريس البصري، إن الوزير كان بمثابة مقدمة سيارة «بار شوك» اسمها النظام، «رافعت مرارا لفائدته ودافعت عنه في كثير من المنتديات، وهناك من كانوا يذكرونني بتنكر الوزير لي، لكنني أعتبر علاقتي به أشبهَ بحياة زوجين قضيا فترة طويلة في عش الزوجية، فأصبح كل طرف يتحمل الآخر.
حين ابتعد عن الداخلية وعن البرلمان قرر استنشاق عبق الكتابة، بدءا بمذكراته التي لامست مساره مع البصري، خاصة وأن تجربته في الداخلية مكنته من الفهم العميق للمخزن، وهو ما اشتغل عليه في كتابه «المخزنة والحداثة»، والذي تضمنَ مقارنة علمية بين أوفقير، الذي كان يحكم بالسيف، والبصري، الذي يحكم بالشوكة والسكين، أما كتابه الثالث «المغرب اللا منتهي» فخصص لغارات البصري على الأحزاب واختراقه لها ولقياداتها، أما الكتاب الذي اخترق به قلاع الأحزاب، فهو «الديموقراطية القاهرة» في ما ينشغل الآن وهو بشقته البسيطة في حي حسان بالرباط، فهو كتاب من خمسة أجزاء حول «الزوايا».
يقول بروكسي: «وسعت هذه المؤلفات الهوة بيني وبين الداخلية، وبدأت أشعر بتدهور ملموس في أوضاعي المادية، بعد أن ارتفعت تكاليف الحياة العائلية، فيما ظل راتبي كمتصرف إداري جامدا في سلـم الوظيفة العمومية، ألتفت حولي فلا أعثر إلا على صحافيين يقتسمون معي الخصاص ويعتبرون استكمال الراتب إلى نهاية الشهر إنجازا، أما أصدقاء الأمس فأداروا ظهورهم وبحثوا عن صداقات جديدة، إلا من رحم ربك. عشت هذا الوضع كما يعيشه كل مغربي، كان صرحا فهوى، ولمست حجم التنكر والجحود في صمت دون أن أعلن توبتي للبصري».
لم يعد الوزير في حاجة إلى بروكسي، الذي أصبح مجرد أثاث قديم في بيت الداخلية، غالبا ما يوضع في السراديب. لقد نسي البصري يوما مشهودا، حين داهمني مطيع في مكتبي وهو في حالة من الهلع وقال لي دون مقدمات البصري على وشك مغادرة وزارة الداخلية. كتفنا الاتصالات، وبفضل تدخلات المهدي متقي الله، الذي كانت تربطه علاقة وطيدة بالجنرال مولاي حفيظ العلوي، تم الإبقاء على البصري كاتبا للدولة في الداخلية، فكـتِب له عمر جديد في المخزن»، قبل أن يسقط من أعلى هرم السلطة بعد رحيل الحسن الثاني.
رغم ذلك ركز البصري جهوده على هيكلة الوزارة وإعادة هيكلة مدرسة تكوين أطر وزارة الداخلية، والقطع مع العهد الأوفقيري، وفي هذه المهام كان ابن الشاوية يعتمد على «الباءات الثلاث: «بنحربيط، بنهاشم، بروكسي».
«عندما غادرت الداخلية والإعلام من البوابة الخلفية، سخرت من نفسي. كنت أحاور بروكسي في عطالته، في ما يشبه المونولوغ، وأصفه بالفلاح الذي ظل ينثر الحبوب على حقول الوزارة ويضع الأسمدة ويحرث بلا كلل، دون أن يجني الغلة.. لم ألتق بالبصري إلا في سنة 1987، وكان حينها يستعد لتقديم رسالته حول موضوع «الأمن والتنمية» تحت إشراف ميشال روسي، رجل القانون الفرنسي الذي ساهم في صياغة الدستور المغربي، لقد اختار البصري ميشال لعدة اعتبارات، أهمها سيرته الجامعية، فهو حاصل على شهادة تبريز وعلى دكتوراه في القانون وشغل منصب أستاذ مكلف بالدروس في كلية الحقوق لغرونوبل، قبل أن يلتحق بكلية الحقوق في الرباط.
متقي الله.. عامل استقال طوعا وعاد لمكتبه كموثق
في سنة 1979 غادر المهدي متقي كرسي عمالة الجديدة، بعد أن جمع أغراضه وودع موظفيه وأصدقاءه، واستدعى شاحنة لنقل أثاث منزله الوظيفي عائدا إلى بيته في الدار البيضاء. لم يكن أحد يصدق أن عاملا يقتسم مع إدريس البصري كاتب الدولة في الداخلية آنذاك، سيقدم على قرار الاستقالة، في زمن لم يكن فيه العمال يغادرون مقرات عملهم إلا بالإقالة أو الإحالة على التقاعد أو الموت. عرف عن المهدي منذ تعيينه عاملا على إقليم آسفي، موقفه الرافض للقرارات الفوقية، بل إنه رفض الانخراط في لعبة الانتخابات التي رسمها البصري، ودخل في صراع مع الاتحاديين، وظل، حسب شهادات لحسن بروكسي، «رافضا الانصياع لقرارات الداخلية، رغم ما يربطه مع إدريس البصري من علاقة صداقة ترجع إلى فترة الطفولة في سطات، كما درسا سويا في إحدى ثانويات الدار البيضاء». يعود سر استقالة عامل الجديدة إلى رسالة تنبيه توصل بها من المصالح المركزية، تحمل بين سطورها عتابا أشبه بالتوبيخ، على خلفية اجتماع أقيم في الرباط قالت عنه العيون الاستخباراتية للبصري إن متقي «كان مخلا بطقوس البروتوكول في حضرة الملك الحسن الثاني». وهو ما جعل فكرة مغادرة صرح الداخلية يكبر في دواخله، قبل أن يقرر تحرير سطور رسالة استقالة فوجئ بها البصري، لكنه قبلها على مضض.
كان بروكسي يستفز البصري حين يقول له إن متقي أكثر منه تمرسا على اللعبة السياسية، بل إن العامل كان يرد على قرارات الداخلية، بإغلاق هاتفه ووضع جهاز التيليكس المرتبط بالوزارة خارج الخدمة، وهو الذي كان يفضل إعداد وجبة الانتخابات على نار هادئة بعيدا عن وصفة الوزارة، التي كانت ترفض خروج متقي عن النص.
غادر المهدي السلطة، وانتابت علاقته مع إدريس البصري الكثير من الجفاء، سيما وأن بيته ظل مقصدا للوزير كلما حل بالدار البيضاء. عاد الرجل إلى مكتبه كموثق وهي المهمة التي مارسها في مراكش والدار البيضاء، قبل أن يدخل دهاليز الإدارة الترابية. لكن ليس البصري هو المساند الرسمي للعامل المستقيل، بل إنه كان يتمتع بمكانة خاصة لدى الجنرال مولاي حفيظ العلوي، وهو الذي كان له فضل كبير في تعيين إدريس البصري على رأس مديرية الشؤون العامة.
رغم أنه من النادر أن يلجأ عامل إلى الاستقالة، إلا أن الملك الحسن الثاني لم يكن يعارض اللجوء لهذا الخيار، إذ كان يوصي وزيره الأقوى بقبول استقالة أي مسؤول في الوزارة كشف عن رغبته في القطع مع الإدارة الترابية والاستمتاع بما تبقى من أيام العمر في راحة تعفي الأذهان من حالة التوجس التي تنتابها مع رنة هواتف أم الوزارات.
تراجع المهدي متقي إلى الوراء وعاد إلى مكتبه كموثق، بعد أن شعر بالمهانة وهو يتوصل بإنذار من الداخلية بسبب سوء فهم، فقد كان الرجل مريضا وتحملَ الألم لحضور اجتماع رفيع المستوى، لكن رجال المخزن حرّفوا مواقفه ونقلوا معطيات زائفة جعلته يُعجل بوضع استقالته على مكتب الوزير.
مجموعة تاونات هي بديل للرباعة «الحرشة»؟
غير البصري جلد محيطه، وأصبحت «مجموعة تاونات» هي البديل لفريق السبعينيات، وهي مصدر ثقته بعد أن وضع جانبا رجالات الأمس، الذين كانوا يكنسون الأشواك من طريقه في بداية عهده بالسلطة، فيما بدأت أسهم طريشة والضريف ومن يدور في فلكهما ترتفع يوما بعد يوم، رغم أن هذين الأخيرين لا يتوفران على المؤهلات الفكرية والسياسية التي تبيح لهما التموقع في دائرة القرار، لأن العديد من عمال البصري كانوا يتفوقون على محيطه من حيث الدهاء المهني والزاد الفكري.
تسلق الضريف سلالم السلطة بسرعة، من عامل إلى مدير للأمن الوطني ومدير للوكالات الحضرية، أما ابن تاونات، محمد الميداوي، فلا تستهويه جاذبية السلطة، لأنه رجل المعادلات الحسابية، بينما تم إبعاد عدد من العمال الذين رافقوا البصري في بداية مشواره في الداخلية، وانسحب حمودة القايد والمهدي متقي قيدومَا الإدارة الترابية في صمت، وكانا ينتقدان طريقة تعامل البصري مع كثير من الملفات.
لا يمكن حصر أسماء الشخصيات التي لها جذور «تاوناتية» في قطاع معين، بل إنها حاضرة في كل المجالات خاصة السياسية، بدءا بإدريس البصري الذي رغم انتمائه الوجداني لمدينة سطات إلا أنه من مواليد تاونات التي عاش فيها طفولته قبل أن ينتقل والده العربي البصري إلى حاضرة الشاوية حيث عين حارسا بسجن عين علي مومن، وفي المدينة التي يحرسها سيدي لغليمي بنى أشهر وزير داخلية في تاريخ المغرب مجده السياسي.
ليس البصري هو وزير الداخلية الوحيد الذي نبت في تربة تاونات، هناك العديد من رجالات أم الوزارات والراسخين في السلطة، الذين تكشف دفاتر الحالة المدنية عن عمق الانتماء كوزير الداخلية أحمد الميداوي، الذي شاءت الصدف أن يخلف البصري ويتحول من تابع له إلى خصم أبدي، فضلا عن الراسخين في جهاز الداخلية أمثال طريشة والضريف.
رغم ارتباطه بالشاوية فإن البصري لم يتنكر لأبناء جلدته ودفع بطريشة والضريف إلى المواقع المتقدمة من السلطة، ومكنهما من امتيازات لا حدود لها ومظلة واقية ضد تقلبات الوظائف السامية.