فرنسا والتجارب النووية في الصحراء الشرقية
مع Télé Maroc
الفرنسيون أنفسهم يرجحون أن تكون فرنسا، في إطار الملفات السرية التي لم يُفرج عنها، قد أجرت تجارب نووية في وقت مبكر جدا.
كيف كانت تتم هذه العمليات إذن؟
في سنة 1958، وبالضبط يوم 11 أبريل، وفي عز النقاش حول جرائم فرنسا في الداخل والخارج، وقع رئيس الوزراء الفرنسي وقتها «جيلارد» الترخيص بإجراء تجربة نووية في الجزائر، لكن الأمر لم يتم بسبب تداعيات الأزمة السياسية التي عصفت بالبلاد، وتسببت في زلزال سياسي حقيقي انهارت خلاله الجمهورية.
أعيد ملف التجربة إلى الواجهة مع بداية 1960، وهو ما يعني أن الإخراج العلني لهذا النوع من العمليات كان يتطلب الكثير من الإعداد وتحفه التعقيدات. وصل شارل ديغول إلى السلطة على أنقاض الجمهورية السابقة، وأعاد التأشير على القرار ليفعله من جديد، وتبدأ فعلا تلك التجربة المحفوفة بالمخاطر.
يوم 13 فبراير بدأت التجربة فعلا مع تمام الساعة السابعة صباحا، حيث تقرر إلقاء قنبلة نواحي الصحراء الجزائرية، تحمل كميات كبيرة من مادة «البلوتونيوم»، وتم وضع معدات عسكرية على مسافات متفرقة لدراسة مدى تأثرها بشدة الانفجار.
لكن هل كانت تلك أول تجربة من هذا النوع؟ ربما تكون أول تجربة سُلط عليها الضوء، وهناك معلومات عن اعتراض الملك الراحل محمد الخامس على إجرائها، لتضطر فرنسا إلى تأجيلها، قبل أن تقرر إجراءها بعيدا عن الحدود. لكن المؤكد أن تجارب كثيرة سبقتها، منها ما وصل صداه إلى الرأي العام، ومنها ما بقي حبيس الوثائق السرية، لكن المؤكد أنها كانت خطيرة للغاية.
عرفت العملية التي وقع عليها الرئيس الفرنسي وقتها بعملية الجربوع الأزرق، والمثير أنها لم تكن خطيرة، لذلك ركزت عليها فرنسا لكي تظهر أنها تحترم معايير السلامة، إلا أن الأمر لم يكن قابلا للتبرير، ما دام قد أجري في بلد آخر وليس في فرنسا. العقلية الاستعمارية لم تكن ترى مانعا في تنفيذ تجربة من هذا النوع في المنطقة. فقد نشرت الصحافة الفرنسية وقتها، أن الانفجار تسبب في وميض قوي استمر لثوان وسط الصحراء، ورآه الأهالي فعلا.
وهو ما جعل المعارضة في المغرب، الذي حصل على الاستقلال، تحاول لفت الانتباه إلى إمكانية حدوث تجارب من ذلك النوع في المغرب أيضا.
المعروف أن فرنسا قوة نووية ومن أولى الدول التي استطاعت تطوير هذه القنابل في العالم، لكنها لم تُؤد أبدا ضريبة التجارب الخطيرة التي حققت من خلالها تلك النتائج. بل أدت دول أخرى تلك الضريبة، وهو ما يجعل فرنسا اليوم مطالبة بالاعتذار لهذه الدول على الأقل.
جربت فرنسا أسلحة خطيرة، سيما خلال فترة الحرب العالمية الثانية، في المنطقة الحدودية بين المغرب والجزائر، لكنها طمست الأرشيف الخاص بهذه العمليات واعتبرته دائما سرا من أسرار الدولة.
هل جربت فرنسا أسلحة مُحرمة في الصحراء؟
قامت الدنيا في فرنسا عندما نُشرت أخبار في سنة 2005، عن اكتشاف غبار نووي في منطقة كوت ديفوار وبوركينا فاسو. وهو ما يؤكد ما ذهب إليه معارضون فرنسيون لسنوات، وهم يحاولون لفت انتباه الرأي العام الفرنسي إلى وجود عمليات تجارب نووية فرنسية في القارة الإفريقية.
حتى أن الوكالة الدولية للطاقة النووية نشرت تقريرا أشار إلى أن التداعيات الناجمة عن إسقاط قنابل من هذا النوع على الأرض تمت في عمليات متكررة في نطاق لا يتجاوز كيلومترا مربعا واحدا.
وهو ما يعني أن فرنسا ظلت تجرب لسنوات عمليات تفجير في مساحة ضيقة، لكن التقرير نفسه قال إن فرنسا لم تتجاوز المستوى الذي يصل إلى درجة تتطلب تدخل الوكالة، وإن تلك العملية لا تشكل أي تهديد على سلامة السكان.
لكن في سنة 2009، وافقت الحكومة الفرنسية على تعويض الأهالي المجاورين لمناطق تلك التجارب، في محاولة لطي الملف.
إلا أن المعارضة في فرنسا، خصوصا نشطاء منظمات حقوق الإنسان طالبوا حكومة بلادهم بكشف ملفات التجارب السابقة، والتي سوف تكون بالتأكيد أكثر خطورة من الأخرى التي أثارت الانتباه.
يتعلق الأمر بعمليات أخرى جرى تجريبها في العقود الماضية، بعيدا عن أعين الصحافة والحكومات، وتسببت في رعب كبير للأهالي، رغم أنهم كانوا يبعدون عشرات الكيلومترات عن تلك المواقع التي جربت فيها فرنسا قنابلها.
من شدة الانفجارات، نزح الأهالي في الصحراء الجزائرية، التي عرفت عمليات تجارب واسعة على مدى سنوات طويلة، نحو المنطقة الحدودية مع المغرب، لكن وقتها لم تواجه فرنسا أي مشاكل مع الرأي العام، لتبرير تلك العمليات أو شرح أسبابها.
لكن الأرشيف العسكري الفرنسي، يجعلنا نطرح أسئلة كثيرة عن تلك القنابل التي حُرم استعمالها دوليا، لكن فرنسا لم تجد حرجا في تجربتها في مناطق تعرف وجود سكان لواحات ورعاة يتحركون بحرية في الصحراء بين المغرب والجزائر.
وما جعل هذا الملف شائكا، أن فرنسا حاولت فعلا تكرار تجارب لقنابل خطيرة، في مناطق أخرى، لكنها اصطدمت برفض واسع في أوساط المسؤولين الفرنسيين الذين كانوا متخوفين من تبعات تلك التجارب، خصوصا في ستينيات القرن الماضي، إذ إن مبرر الحرب العالمية الثانية الذي استغلته فرنسا لتجربة أسلحتها في المغرب أيضا، لم يعد نافعا بعد خمسينيات القرن الماضي. كما أن الصحافة الفرنسية صارت أكثر شراسة وتنقب في ملفات الحكومة، وقد تؤلب الرأي العام الفرنسي ضد حكومة بلاده، في حال ما استمرت التجارب في الصحراء بين المغرب والجزائر.
وهناك معلومات تفيد بأن الملك الراحل محمد الخامس سنة 1959، وصل إلى علمه أن فرنسا تنوي إجراء تجارب نووية واسعة في الصحراء الشرقية على مقربة من المنطقة الحدودية مع المغرب، ورغم أن المنطقة لم تكن مأهولة، إلا أن الملك الراحل أجرى اتصالات واسعة وطلب ألا يتم إجراء تلك التجارب، مخافة تداعيات إلقاء قنابل من ذلك النوع على القبائل والرحل. وهو فعلا ما استجابت له فرنسا، وجنب الجزائر كوارث إضافية.
ورغم أن المغرب لم يكن معنيا بتلك العملية، إلا أن وساطة الملك الراحل محمد الخامس كانت لصالح إغلاق ملف تلك التجارب في الصحراء، لكنها استمرت فعلا، وهو ما يؤكده الأرشيف في مناطق أخرى.
في هذا الملف سوف نتطرق أيضا إلى الأسلحة التي جرى تجريبها في المغرب، وليس فقط الأسلحة النووية.
+++++++++++++++++++++++++
لماذا لا تُفرج فرنسا عن أسرارها العسكرية؟
بعض الملفات التي كانت تدخل في خانة «أسرار الدولة» رُفعت عنها السرية ونوقشت في برلمان فرنسا وأدلى السياسيون والمثقفون برأيهم فيها، بل وحثوا القصر الرئاسي على صياغة اعتذارات رسمية لبعض الدول، التي تضررت من سياسة فرنسا سابقا. لكن لم يسبق أبدا أن كان المغرب معنيا بأي من تلك الملفات، رغم أن جرائم فرنسا عندنا لا تختلف في شيء عن جرائمها في بعض الدول التي اعتذرت لها رسميا ورفعت السرية عن وثائق بعض العمليات، رغم بشاعتها.
باحثون مغاربة منذ سنوات حاولوا الوصول إلى الأرشيف المتعلق ببعض القضايا، لكن ملاحظة واحدة خلصوا إليها جميعا، مفادها أن هناك قطعا ناقصة من «الأحجية». إذ إن آلاف الوثائق التي تؤرخ لعمليات فرنسا في مناطق المغرب الشرقي على وجه الخصوص، تُعتبر ناقصة في ظل غياب وثائق أخرى تتعلق بمجمل العمليات المنفذة هناك، سيما منها تلك التي تتعلق بإبادة القرى، وسجن الرافضين لسياسة الجيش الفرنسي في مناطق المغرب ما بين 1912 و1919، السنة التي وصل فيها جنرالات فرنسا إلى نواحي ورزازات وتنغير.
مقارنة بين الروايات الشفهية التي جمعها باحثون من أبناء المنطقة، على لسان من عاشوا تلك الأحداث الدامية، وبين ما هو مدون في السجلات العسكرية، تؤكد فعلا أن فرنسا لم توثق بالصورة المطلوبة لما وقع فعلا في تلك الأراضي الشاسعة.
وهو ما يفتح الباب على مصراعيه على فرضيات وجود تجارب فعلية لأسلحة خطيرة، في منطقة الصحراء الحدودية مع الجزائر.
إذ إن الجيش الفرنسي لطالما اعتبر مناطق طاطا، صعودا نحو فكيك، باحة خلفية لقواته العسكرية.
وكان سياق الحرب العالمية الأولى وقتها يخيم على الأجواء، ويقلق المؤسسة العسكرية الفرنسية. وهكذا فقد تم تجريب أسلحة استُعملت خلال تلك الحرب، في الصحراء أولا للتأكد من نجاعتها، قبل استعمالها في الميدان.
الجرائم التي مورست في الحرب العالمية الأولى والموثق لها في الصور والفيديو أيضا، مورست أيضا في المناطق القاحلة بين المغرب والجزائر، وجرى الترتيب لها بشكل سري، لكن تفاصيلها تسربت في الأخير إلى سياسيين فرنسيين وصحافيين، وتحدثوا عن أسلحة خطيرة جُربت على سكان القرى، رغم نفي الحكومات الفرنسية في مناسبات كثيرة وقوع أمر مماثل. لكن عسكريين متقاعدين، وفرنسيين استقروا في المغرب تحدثوا فعلا عن ممارسات همجية ومشاريع لتجريب أسلحة فتاكة، توقفت في آخر لحظة بفضل تدخلات سياسيين، جنبت فرنسا الوقوع في «فخ» جرائم ضد الإنسانية.
بعض الأرشيف الفرنسي العسكري سيكون بلا شك محرجا لفرنسا، لذلك رغم سريان قانون رفع السرية عن الوثائق الرسمية، العسكرية منها على وجه الخصوص، على الأرشيف الرسمي للدولة، إلا أنه لم يسر على تلك الوثائق التي سوف تكون محرجة بكل تأكيد.
عبد الله إبراهيم والتحقيق في جرائم الجيش قرب فگيك
عندما كان عبد الله إبراهيم وزيرا أول في حكومة 1959، كان موضوع القواعد العسكرية الأجنبية في المغرب ملفا ساخنا فوق طاولة الحكومة المغربية التي كان أغلب أعضائها، إن لم يكونوا كلهم، يسيرون مع تيار قدماء الحركة الوطنية الداعي إلى ضرورة تحرير البلاد من كل ما هو فرنسي.
ملف تسليم القواعد العسكرية التي بنتها فرنسا، خصوصا قاعدتي مكناس ومراكش العسكريتين، كان يطغى على النقاش العام في المغرب، سيما وأن تيار الوطنيين الشباب كانوا لا يزالون يكنون العداء لكل ما هو فرنسي، رغم توقيع الاستقلال في مارس 1956.
إذ رغم تسليم قاعدتي مكناس ومراكش، إلا أن استكمال عمليات التسليم في 1959 كان لا يزال يعرف عرقلة كبيرة، خصوصا وأن مسؤولين فرنسيين كبارا أخذوا معهم وثائق من الأرشيف لم يتم تسليمها إلى المغرب، سيما في المؤسسة العسكرية والأمنية.
إذ إن وجود بعض المحاضر المتعلقة بجرائم فرنسا في المغرب قد يدين فرنسا مستقبلا، لذلك حرص المسؤولون السابقون، خصوصا المناصرين للعقلية الاستعمارية، على إتلاف وثائق تتعلق بالأرشيف، وهو ما أكده عدد من الوطنيين المغاربة الذين كانوا قريبين من تلك الكواليس أو شهودا عليها.
كان عبد الله إبراهيم، بحكم علاقاته مع قدماء خلايا المقاومة المسلحة، يفتح مكتبه في مقر الوزارة الأولى بالرباط أمام الراغبين في رفع مظالمهم إلى الملك الراحل محمد الخامس، وكثيرا ما كان العاملون في القصر الملكي يشاهدون الوزير الأول وهو يسرع الخطى قاطعا الساحة المفضية إلى جهة القصر الملكي التي كان يوجد فيها مكتب الملك الراحل، مصحوبا بزواره من خلايا المقاومة، لكي يُمكنهم من لقاء الملك لدقائق وتقديم شكاويهم بين يديه. ومن بين قدماء المقاومة الذين سبق لعبد الله إبراهيم الوساطة من أجلهم، بعض القادمين من مناطق فگيك والمنطقة الحدودية مع الجزائر شرقا. وهؤلاء اشتكوا للملك الراحل من أحداث 1953 التي عرفتها المنطقة، ووضعوا بين يدي الملك الراحل مظالم تتعلق بالشطط الذي طالهم، حيث سُلبت منهم أراض شاسعة من الواحات، وأحرقت مزارعهم. وكانت وقتها إشاعات قوية تتناقلها الألسن، بشأن تجريب فرنسا لأسلحة خطيرة جدا في المنطقة المشتركة بين المغرب والجزائر، والتي تحولت لاحقا إلى مناطق متنازع عليها بين البلدين، بسبب عدم وضوح سياسة الترسيم الحدودي التي رعتها فرنسا في المنطقة، بشكل متعمد.
وقتها أعطى الملك الراحل محمد الخامس تعليمات لتوفير عناية خاصة للمقاومين المنحدرين من تلك المناطق، بحكم أنهم عاشوا معاناة من نوع خاص، ضاعت أغلب تفاصيلها بسبب اختفاء الأرشيف المتعلق بها، رغم أن أحداثا أخرى وقعت بعدها، ولم يتعرض أرشيفها للتلف.
لم يقو أي مسؤول مغربي وقتها لكي يتهم فرنسا صراحة بتجريب أسلحة محرمة في تلك المناطق، لكن «روايات» تجريب فرنسا لأسلحة مميتة، كانت تطغى فعلا على النقاش العام وقتها، إلى درجة أن بعض قدماء المقاومة طالبوا بمساءلة فرنسا عن صحة تلك المعلومات، خصوصا وأنها كانت تتعلق بتجريب أسلحة «نووية» في المنطقة الحدودية مع الجزائر، سبق لمعارضين فرنسيين أنفسهم أن طالبوا بفتح تحقيق في تفاصيلها، وما إن كانت فعلا قد جرت فوق تراب المنطقة المشتركة بيننا وبين الجزائر.
الملف السري لتجريب رشاشات على الأبرياء بشوارع المغرب ومداشره
جربت فرنسا أنواعا كثيرة من السلاح في المغرب، بينها رشاشات متطورة، أوتوماتيكية، وحرصت على ألا يصل أي منها إلى أيادي أعضاء الخلايا السرية للمقاومة، الذين بدؤوا أنشطتهم المعادية لفرنسا بعد غشت 1953، تاريخ نفي الملك الراحل محمد الخامس.
من بين تلك الرشاشات التي استعملتها فرنسا، رشاشات متطورة تصيب الأهداف بدقة متناهية، حسمت بها معارك كثيرة خلال الحرب العالمية الثانية. لكنها استعملتها ضد مدنيين مغاربة على خلفية أعمال «شغب»، لا تمت بصلة للحروب ولم تكن تشكل أي تهديد أمني على الفرنسيين.
وحسب وثائق الإدارة الأمنية الفرنسية في الرباط، والتي سبق للمندوبية السامية للمقاومة أن ترجمتها إلى اللغة العربية في ثمانينيات القرن الماضي وأصدرتها في سلسلة منشورات، فإن القوات الفرنسية، ومنها قوات تابعة للجيش وليس للبوليس، نفذت عمليات تطهير واسعة في صفوف السكان بأسلحة جربت مفعولها لأول مرة في المغرب،
ووقعت بسبب ذلك مجازر رهيبة حصدت أرواح الأبرياء.
جاء في وثائق المحاضر الفرنسية، أنه في منتصف شهر غشت 1955، وبالضبط يوم 18 منه، احتفل البوليس الفرنسي باعتقال خلية سرية، كان أعضاؤها يتجاوز عددهم العشرين فردا. تم إلقاء القبض عليهم جميعا، عندما كانوا في اجتماع في منزل مهجور نواحي منطقة فضالة، وصودرت معهم أسلحة ومعدات لصناعة قنابل محلية.
في مثل هذه الحالات، لم يكن المدعي العام الفرنسي في حاجة إلى أدلة إدانة كثيرة، ما دام المحضر الذي أعده البوليس يذكر مصادرة محجوزات، تعتبر في لغة القانون «أدوات الجريمة» وأدلة ضد المُحتجزين.
رغم أن رسالة من الوطنيين أكدت وجود تلاعب في محضر احتجاز الشبان العشرين، إلا أن المدعي العام أثناء المحكمة، عندما أثار دفاع المتهمين الموضوع، أكد أنهم اعترفوا عند بداية التحقيق معهم بالمنسوب إليهم، وأكدوا أنهم كانوا يخبئون الأسلحة في المنزل الذي تم احتجازهم فيه. وهكذا ضاعت على الدفاع فرصة التشكيك في مصداقية المحاضر لربح الوقت.
هذه الحيلة كان يلجأ إليها الوطنيون أيضا لتأليب الرأي العام ضد الإقامة العامة الفرنسية. هذا لا يعني أنهم كانوا دائما مخطئين، فقد تم فعلا تزوير المحاضر في عدد من القضايا التي أدين فيها مواطنون مغاربة بالسجن المؤبد، وأحيانا أخرى وصل الأمر حد تنفيذ عقوبة الإعدام في حق مواطنين مغاربة، لم يتأكد القاضي من مصداقية المحاضر المنسوبة إليهم، رغم أن محاميهم أكدوا أن موكليهم يتبرؤون من الكلام المنسوب إليهم في محاضر البوليس.
ربما كان السياق العام الذي ألقي فيه القبض على أولئك الشبان غير مناسب لمراقبة تنزيل النصوص القانونية واحترامها، فقد كانت الأوضاع تعرف غليانا غير مسبوق، تجاوز كثيرا في حدته خطورة الأحداث التي عرفتها بداية السنة.
فقد ازدادت وتيرة قطع أسلاك الهاتف، وهي الحيلة التي بدأ الوطنيون في تنفيذها مع مطلع الخمسينيات، احتجاجا على نفي الملك محمد الخامس، وكانوا يلجؤون إليها لتعطيل التنسيقات الأمنية.
لكن ما لم تتضمنه المحاضر، وكشفته ذاكرة التاريخ الشفهي لقدماء المقاومة، أن الإدارة الفرنسية رأت أنه لم يعد هناك أي مفعول رادع للاعتقالات، والأحكام، فاختارت إطلاق الرصاص على المواطنين في الشوارع والقرى، رغم أنهم لم تكن لديهم أي علاقة لا من قريب ولا من بعيد بالأحداث التي كانت الإدارة الفرنسية تريد كبحها.
محامون فرنسيون أدانوا جرائم بلادهم قبل ستين سنة
بعض المحامين الفرنسيين اكتسبوا شهرة واسعة في فرنسا وخارجها أيضا، بفضل قيادتهم لحملات مناهضة لسياسة بلادهم في بعض الدول، خصوصا في شمال إفريقيا.
إلى درجة أن بعضهم ترافعوا لصالح محكومين مغاربة بالإعدام سنة 1954، على خلفية أعمال اعتبرها الفرنسيون إرهابية، وغامر هؤلاء المحامون بسمعتهم وترافعوا لصالح المتهمين على أساس أنهم مقاومون.
هؤلاء المحامون سلطوا الضوء بقوة على جرائم جيش بلادهم في المغرب، وتنفيذ مجازر باستعمال أسلحة مخصصة للحروب مثل الرشاشات، لمواجهة أعضاء الخلايا السرية للمقاومة الذين كانوا بالكاد يتوفرون على مسدس تقليدي أو مسدسين، قبل أن تزداد حدة المقاومة بعد ارتفاع إيقاع الأحداث وازدياد قساوة القمع الفرنسي.
وحسب أرشيف المحاضر الفرنسية في إدارة الأمن التابعة للإقامة العامة في الرباط، وبناء على المحاضر المتوفرة، والتي تعود إلى سنة 1955، فإن عملية إلقاء القبض على الخلية السرية كانت في تمام الرابعة فجرا من صباح الخامس عشر من غشت. كانت الخلية بصدد اجتماع سري، لمباحثة طريقة آمنة لمغادرة الدار البيضاء، بحكم أن كل أفراد الخلية أصبحوا في عداد المبحوث عنهم.
الأسوأ، أن أحد أعضاء الخلية تعرض للاعتقال والتعذيب، ولم يرد البقية المغامرة بسلامتهم الجسدية، في حال ما إذا انهار صديقهم تحت التعذيب الرهيب، الذي يتعرض له المقاومون في أقبية الكوميسارية على يد الجلادين المغاربة الذين عملوا لصالح البوليس الفرنسي.
كانت لحظة المداهمة غير متوقعة، وحسب المحاضر، فقد حُجزت قنابل في طور الإعداد، واعترف «مولاي» بسهولة بأنه كان يحضرها لعمليات كانت الخلية تخطط لتنفيذها في الدار البيضاء والنواحي، وتستهدف بالأساس أعوان الإدارة الفرنسية.
قُدم الجميع إلى المحاكمة، وتم الاحتفاظ بهم في السجن المركزي بالقنيطرة.
وحسب بعض إفادات قدماء المقاومة، فإن بعض الأسماء لم ينفذ فيها حكم الإعدام، وحدث أن ماتت متأثرة بالمرض، وصعوبة الجو داخل السجن المركزي، وكان هذا هو مصير أغلب أفراد الخلايا السرية. لكن المصادر ذاتها تؤكد أنه تم تنفيذ حكم الإعدام في عدد من المقاومين، أسابيع قليلة قبل عودة الملك محمد الخامس من المنفى، والتمهيد لحصول المغرب على الاستقلال.
لم يتوقف الأمر عند تنفيذ أحكام الإعدام، والتي يوثقها الأرشيف، بل تجاوز ذلك إلى إطلاق الرصاص بشكل عشوائي على المتظاهرين في مناسبات كثيرة، وهو ما يزكي فعلا وقائع إبادات جماعية لسكان القرى، رغم محاولات المؤسسة العسكرية الفرنسية التملص من تلك الاتهامات التي لاحقتها لسنوات طويلة.
هؤلاء المحامون الذين أدانوا حكومات بلادهم، لم يجدوا حرجا في اتهامها صراحة بتلك الجرائم، وطالبوها بالاعتذار للمغاربة عن كل ما حدث. لكن يبدو أن مسألة هذا الاعتذار سوف تبقى مؤجلة لوقت أطول، رغم حالات المد والجزر بين باريس والرباط، بسبب القضايا القديمة والمتراكمة، والأخرى الجديدة أيضا.