دولة الخلافة على وقع الاغتيالات.. مقتل علي بن أبي طالب
مع مراد كراخي
الأحداث السياسية التي طبعت فترة حكم الخليفة عثمان واغتياله لم تندمل ولم تنطفئ، حتى بولاية علي بن أبي طالب كخليفة على المسلمين بإجماع قوي منهم ومن كافة مناطق وبقاع بلاد المسلمين.
بعد مقتل عثمان بن عفان الذي حكم أكثر من 14 سنة، بايع المسلمون أبا الحسن علي بن أبي طالب، وهو ابن عم الرسول وزوج ابنته فاطمة أم البنين. وهو الرضيع الذي كان النبي أول من حمله، بل يقال إن مباركة الرضيع كانت من خلال إقامته وأمه داخل الكعبة لثلاث ليال تامة.
لعلي بن أبي طالب، قيد حياته وبعدها، قصة مليئة بالتراجيديا وبالقداسة، وخصوصا من طرف أتباعه من الشيعة. لكن كان حوله، وحسب اختلاف المذاهب والأطياف، إجماع تام على أنه خليفة يختلف عن غيره من الصحابة والخلفاء الراشدين بتعمقه الفكري والروحي والفلسفي المتصوف، وبحكمته وبلاغته. كما كان صحابيا كثير الكتابة والمحاضرة في الناس، وكان كتابه آنذاك «نهج البلاغة» نبراسا في الخطابة الأخلاقية والروحية لتلك الفترة.
بل ولزهده الفكري ذهب الكثير من الرواة والمحققون والمؤرخون في اعتبار مميزاته الفكرية هي السبب في كونه لم يعين خليفة للمسلمين من بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ربما لأن حكمة النبي اقتضت أن تولى أمور المسلمين من بعده لخليفة معهود له بالباع السياسي أكثر من الفكري والروحي.
وكيفما اختلفت روايات تولي علي بن أبي طالب لخلافة عثمان بن عفان، فإن مقتل هذا الأخير كان طابعا للسنوات الأولى من خلافة علي. فاستمرت من بعد عثمان ومضات الاحتجاج، بل وكان أبرز عنوانها هو القصاص لعثمان... وهو المطلب الذي اشتد في التمسك به بنو أمية وعائشة رضي الله عنها.
لمح بنو أمية وأتباع عائشة (طلحة والزبير وباقي أتباعهما)، بأن الخليفة على بن أبي طالب هو من رجال الدولة المسالمين الذي كان يؤمن أشد إيمان بوضع حد للفتنة الكبرى التي أودت بعثمان من خلال عقد وإبرام مصالحات كبرى شاملة تهم كل الدولة الإسلامية. بل وكان قرار نقله إلى عاصمته السياسية من المدينة إلى الكوفة بمثابة إشارة فهمها خصومه على أنه هروب إلى الأمام، وابتعاد عن واجب الإنصات والتدخل وتنفيذ المطالب.
هذا التوجه الإصلاحي والتصالحي لعلي بن أبي طالب لم يرق لعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها. ولعائشة (ثالث أزواج الرسول) وضع سياسي وجينيالوجي وتاريخي خاص. بحيث اختلفت نظرة أكبر طائفتين إسلاميتين إلى عائشة اختلافًا ملحوظًا، فبينما يجُلَّها أهلُ السُنَّة ويُحيطونها بالحفاوة والتكريم، ينتقدها الشيعة الاثنا عشريّة انتقادًا كبيرًا يصلُ، عند طائفةٍ واسعة منهم، إلى حد اللعن والتبرؤ والسب، ويتهمونها بعداء أهل البيت وبتسميم الرسول مُحمَّد. وكان هذا التباين الواسع في النظرة سببًا رئيسيًا في توسيع الهوَّة بين أهل السُنَّة والشيعة الاثنا عشريَّة، وعُنصرًا محوريًا في الخلاف السُني الشيعي. وقد حاول بعضُ العلماء الشيعة القضاء على الفتنة، فأصدروا العديد من الفتاوى الشرعيَّة التي تُحرّم سب عائشة والصَّحابة أو التعرُّض لها بأي شكلٍ مُهين، مُعتبرين أنَّ ذلك إهانة لِشرف الرسول مُحمَّد وخدمة لأعداء الإسلام.
المهم أن إصرار عائشة على القصاص لعثمان، وفي المقابل، إصرار الخليفة على تتويج مذهب المصالحة، أفضى بنشوب «معركة الجمل» بينهما انتهت بانتصار علي وبالإبقاء على عائشة في شبه نفي اختياري بمقر إقامتها وخروجها من عالم السياسة والتجمهر وحق الاجتماع والتعبئة.
النعرة القبلية لبني أمية لم تهدأ هي الأخرى، حيث نشبت حرب بين علي ووالي دمشق آنذاك معاوية بن أبي سفيان، وهي معركة «صفين» (نسبة إلى ضفتي واد دجلة)، المعركة التي كرس فيها الخليفة علي بن أبي طالب وضعيته العسكرية والسياسية القوية ضد بني أمية، والتي أفضت إلى عزل معاوية من منصبه.
لكن القرار الذي اتخذه الخليفة علي بن أبي طالب عقب معركة صفين، والقاضي بقبوله الصلح مع الأمويين بالرغم من وقوع خسائر بشرية كثيرة، كانت مع علي وجيشه، بل وقبوله إرجاع الأمويين إلى دمشق من خلال إعادة معاوية والصفح عنه، خلقت انتفاضة ورجة معارضة في صفوف علي بن أبي طالب. وخرج فيلق سمي «الخوارج» معارضا لعلي ولسياسته التصالحية المبالغ فيها. ولأن علي استفاد من مأساة عثمان بن عفان، مال سريعا في اتجاه قمع شرس لحركة الخوارج، وتمت تصفية العديد من زعمائها.
هذه الصرامة تجاه الخوارج غذت الرغبة في الانتقام من علي. الروايات تقول إن الخوارج حاولوا أولا قتل معاوية بن أبي سفيان فلم يستطيعوا، ثم عاودوا محاولة اغتيال عمرو بن العاص ففشلوا، إلى أن استقر أمرهم في محاولة الفتك بالخليفة علي بن أبي طالب نفسه.
النمط المتصوف الذي طبع الحياة اليومية لعلي بن أبي طالب جعله
«فريسة» سهلة في يد كل من سولت له نفسه البطش به. يخرج بلا حراسة، يؤم الناس ويصلي بهم غير متسلح، يخرج للأسواق ويحاضر في المساجد، بل كان الخليفة هو من يؤذن لصلوات الفجر بمسجد الكوفة الكبير.
هذا النمط سهل على أحد الخوارج وهو عبد الرحمن بن ملجم، بأن يعترض سبيل الخليفة في فجر أحد أيام رمضان (19 رمضان 40 هـ) ويضرب رأس الخليفة بسيف مسموم. خرج المصلون في فجر ذلك اليوم، وحملوا الخليفة إلى بهو المسجد الكبير للكوفة، وألقوا القبض على عبد الرحمن بن ملجم. ولأن الخليفة لم يمت في حينه، أمر ابنه الحسين وأتباعه ومستشاريه بأن لا يأخذوا قصاصهم من المجرم، إلا بعد تأكد وفاته. وهو ما وقع بعد ثلاثة أيام في 21 رمضان من 40 هـ.
تقول روايات كثيرة بأن علي خلال ثلاثة أيام احتضاره فطن إلى أن عملية دفنه هي الأخرى محفوفة بالمجازفة، وهناك من يقول إنه مدفون وسط مسجد الكوفة، ولكن روايات أخرى تقول إن علي أمر ابنيه بحمل رفاته سرا إلى أفغانستان (بلاد كان يعز ويثق في أهلها) ودفنه بمزار الشريف بالمسجد الأزرق هناك.
سيعرف آل علي اضطهادا من الأمويين، وسيبقى التاريخ يحفظ للجميع أن الفترة السياسية بعد موت علي كانت أشد من سابقاتها. وهي الفترة التي ربما سينتهي فيها الحكم «الخليفي الراشد»، لتنطلق حقبة سياسية جديدة متسمة بطبيعة التوريث في السلطة.