هذه قصة ميلاد علامة Made In Morocco
مع تيلي ماروك
نبدأ مثلا بعائلة مسجلة باسم آل التركي، حيث اشتغل جيلان من العائلة في قطاع تصدير الزليج المغربي. وكانوا يستقرون في الرباط قادمين إليها من فاس، حيث انتقلوا إلى الاستقرار بها مع انتقال السلطة من فاس إلى الرباط في عهد المولى يوسف ابتداء من سنة 1912، وربطوا علاقة وطيدة مع القصر الملكي. هذه العائلة حققت أرباحا بمئات آلاف الفرنكات من خلال تصدير الزليج المغربي من مدينة فاس، واقتنت أسطولا كاملا من الشاحنات، واضطرت إلى انتظار موافقة الإقامة العامة الفرنسية وتدخل السلطان مولاي يوسف من أجلها سنة 1915، لكي يقنع الإقامة العامة الفرنسية بالترخيص لها لاستيراد الشاحنات لنقل الزليج «الحر» بكميات كبيرة إلى ميناء الدار البيضاء، ومن ثمة بيعه في كل من إيطاليا وإيرلندا. أما في فرنسا فقد صادفتها صعوبات كثيرة في السنوات الخمس الأولى، ثم استطاعت اقتحام السوق الفرنسي متأخرة، لكن لم تكن حجم معاملاتها بالقوة نفسها التي وصلت إليها في بريطانيا وإيرلندا. وكان عمال الشركة البريطانية يقومون بطبع شعار «Made in Morocco» على صناديق شحنات الزليج المغربي لآل التركي.
الحرب العالمية الثانية كانت وراء ازدهار «الماركة» المغربية
عند الإنزال الأمريكي في الشواطئ المغربية للمشاركة في الحرب العالمية الثانية سنة 1943، كان المغرب على موعد مع التاريخ. سوف يصبح السوق المغربي مطلوبا بقوة لدى المستثمرين، الذين تضررت أعمالهم في أوربا بسبب الحرب العالمية الثانية.
وقبل الحرب بسنوات طويلة، ومنذ القرن 19 كان المغاربة قد وصلوا فعلا إلى السوق العالمية، وكانت «صنع في المغرب» تطبع باللغة الإنجليزية، ثم الفرنسية لاحقا، على السلع المغربية الموجهة إلى التصدير نحو أوربا والعالم.
الكلاوي، باشا مراكش الشهير، كان بدوره سفيرا للماركة المغربية في الخارج. ليس فقط لأنه أسس شركات ومارس التجارة بعيدا عن الصورة القديمة التي عرفها بها المغاربة كحليف لفرنسا ومحارب في تخوم جبال الأطلس، ولكن لأنه كان موضوع الصحافة العالمية لأنه صادق المشاهير واستضافهم ولبى دعواتهم إلى زيارة فرنسا وبريطانيا، وحضر الأوبرا والمسارح ودور السينما. وبالتالي كان وجهه «ماركة» مغربية روجت للمغرب في أوربا، خلال ثلاثينيات القرن الماضي تحديدا.
سبق للباشا الكلاوي أن أسس شركة مع مساهمين فرنسيين، لكن كان جل رأسمالها مغربيا. أطلق عليها اسم «زليجة» وقد كان من بين أنشطتها تصدير منتجات مغربية صنعت في المغرب نحو أوربا. قصة الشركة «زليجة» التي توجد إشارات إليها في سجلات المعاملات التجارية لنهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، تؤكد أن الباشا الكلاوي كان يبحث عن السيطرة على السوق المغربي، حيث أسس الشركة التي فازت بشراكات مع شركات فرنسية أخرى تعمل أساسا في مجال البناء وترميم القصور وتشييد بنايات على الطراز الفرنسي والمغربي أيضا.
هذه الشركة كان الباشا يهم ببيعها إلى وزراء فرنسيين من الحكومة الفرنسية. وهؤلاء الوزراء كانوا يخططون ربما للتقاعد في المغرب والاستثمار فيه، خصوصا وأنهم لم يفاتحوا الباشا في موضوع الاستثمار، إلا بعد نهاية ولاياتهم الوزارية. وهناك اليوم مراسلات تتحدث عن اسم شركة «زليجة» دون الخوض في تفاصيل عن مجمل أنشطتها المالية أو التجارية، لكن تم ربطها بالباشا الكلاوي باعتباره المساهم الأكبر في رأسمالها الضخم في ذلك الوقت، ولعلها اليوم تستحق عن جدارة لقب «الشركة المنقرضة». لأن عددا من شركات الكلاوي قد انقرضت بالفعل، أو بيعت وتغيرت أسماؤها حتى لا تتعرض للتخريب على يد الوطنيين الذين كانوا ينقبون في تلك الإشاعات ويبحثون عن أي شركة يمكن أن تكون على علاقة بثروة الكلاوي، الذي ناصبهم العداء بدوره خلال بداية الخمسينيات.
كان نشاط هذه الشركة مسجلا بين سنوات الأربعينيات وبداية الخمسينيات. حتى أن عبد الصادق الكلاوي في مذكراته عن والده الباشا، نشر أرشيف والده وتوجد به إشارة إلى «شركة زليجة»، دون الحديث عن الطريقة التي انتهت بها تلك الشركة. والتي قد تكون مرتبطة بمصير الباشا نفسه، بعد أزمة العرش منتصف الخمسينيات ونهايتها، بانهزام تيار الباشا الكلاوي وانسحابه من الحياة السياسية نهائيا سنة 1956، وتقاعده بمنزله ليتوفى في الفترة ذاتها. لقد كانت تجربته التجارية أكبر دليل على ازدهار التجارة المغربية، بعد الحرب العالمية الثانية. فأرباح الباشا وبعض المحسوبين عليه ازدهرت بعد سنة 1944، مباشرة بعد انتهاء أزمة عام البون ليصبح السوق المغربي واعدا وبقوة.
من بين الذين ازدهرت تجارتهم في تلك الفترة نجد أحد قادة حزب الاستقلال وأعيان فاس الكبار، محمد الغزاوي، الذي عينه الملك الراحل محمد الخامس مديرا عاما للأمن الوطني بعد الاستقلال. هذا الرجل كان أحد أوائل المغاربة الذين اشتغلوا في التصدير، حيث كانت فروع شركته المغربية تجد لها مكاتب في نيويورك وإيطاليا وفرنسا لتصدير عدد من المنتوجات المغربية صوب أوربا وأمريكا في ثلاثينيات القرن الماضي، وهو ما جعله يصبح فاعلا سياسيا كبيرا في المغرب، خصوصا وأنه كان صديقا لكبار أثرياء العالم، سيما في نيويورك وباريس. وبعد الحرب العالمية الثانية، تعززت تجارته بعدد من الصفقات في أوربا وأمريكا، حيث كان شخصيا وراء وصول السلع المغربية من ميناء الدار البيضاء إلى الولايات المتحدة وإيطاليا.
الموانئ المغربية.. ملامح منقرضة لبداية تصدير السلع نحو العالم
رغم أن المغرب وصل إلى موانئ عالمية معروفة في أوربا وأمريكا خلال القرن 19 وبداية القرن العشرين، إلا أن الموانئ المغربية لم يكتب لها أن تتطور إلا عندما أسس الفرنسيون ميناء الدار البيضاء الحديث عند أشغال إعادة بناء الدار البيضاء، بعد القصف الذي «محا» المدينة تقريبا ليعاد تشييدها من جديد، وتتفوق على نفسها لكي تصبح «كازا» أخرى، بناها الفرنسيون وخططوا لها لكي تصبح الركيزة الاقتصادية في شمال إفريقيا وليس في المغرب فقط.
الموانئ المغربية، قبل ذلك التاريخ كانت بدائية جدا. وقد سجلت شركات أجنبية مشاكل كثيرة، خصوصا في موانئ طنجة، الجديدة والصويرة. بينما الإسبان كانت لهم تجاربهم مع ميناء الناظور، الذي تعرض لحريق مهول خلال القرن 18.
في واحدة من الكتابات التي حققت مبيعات كبرى في بريطانيا خلال القرن الماضي، كتبت المغامرة البريطانية الشهيرة آميليا عن الموانئ المغربية، بالصورة التي وجدت عليها ميناء مدينة طنجة سنة 1873. وقد سبق في «الأخبار» أن عرضنا ترجمة في حلقات سنة 2017 لأقوى مضامين يوميات المغامرة البريطانية، والتي عنونتها بـ«شتاء في المغرب».
«الساحل الطنجي كان ساحرا، أطلق عليه الإنجليز منذ القرن 19 اسم مارينا». تقول آميليا إن مارينا طنجة كانت جميلة، عبارة عن مساحة بحرية محاطة بجدران سور المدينة. وكانت
تبدو منها بعض المنازل المترامية على الأطراف، بينما كانت الطريق المؤدية إلى الميناء مغطاة بالحمالين، الذين كانوا منهمكين في نقل السلع والبضائع المتوافدة على ميناء طنجة.
تقول آميليا: «لا يسمح لأي مركب بالاقتراب من الميناء، إلا عندما يتسلم الكابتن ترخيص الصحة من المركب الذي يسبقه. تحمل الباخرة بالإضافة إلى المسافرين والسلع، بريد الرسائل الذي يتكلف مغربي يهودي شاب بحمله كساع بريد إلى المفوضية البريطانية التي تتكلف رسميا به.
كان مستحيلا أن يتم اختطاف اليهودي الشاب للوصول إلى بريد المفوضية البريطانية، للحصول على الرسائل والجرائد.
في أيام الشتاء يكون البريد متأخرا وغير منتظم. وكان عاديا أن تمر خمسة أيام دون وصول أي خبر من بريطانيا.
عندما تصل سفينة أو مركب جديد، يعلو الصياح في الميناء، ويقفز الحمالون إلى الموج ممسكين بأطراف ثيابهم، ملوحين للمركب والمسافرين على متنه مترنحين مع حركة الموج.
المسافرون المعذبون يحملون إلى الأرض إما فوق الكراسي الخشبية أو على أكتاف الحمالين الأقوياء، وأغلبهم يهود. كانوا ينظرون إلى حقائبهم المحجوزة عند الحمالين الذين كانوا نصف عراة».
هذه الصورة البليغة لكيفية عمل الميناء في طنجة، كافية لجعل الأجانب يعرفون أنهم باختيارهم التوجه إلى المغرب، فإنهم يكونون مقبلين على عالم آخر لم يكونوا في الحقيقة يعرفون عنه أي شيء.
حسب آميليا دائما، فإن حوادث كثيرة لانعدام الأمن وقعت في ميناء طنجة خلال القرن 19. وسجلت حالات اختطاف لبنات على مرأى من آبائهن، بالإضافة إلى ضياع حقائب عدد من المسافرين. لكن هذا الأمر كان في حالات نادرة من الفوضى واقتحام دخلاء للحياة داخل الميناء.
أسرة اختفت تماما من الخريطة كانت وراء انتعاش العلامة المغربية للزليج
تحتوي سجلات الأرشيف الفرنسي اليوم على لوائح بأسماء عائلية مغربية، اختفت من خريطة المال والأعمال في المغرب بعد الاستقلال. عائلات يمكن أن نصفها هنا بـ«الثرية»، ووصلت فعلا إلى درجة من الثراء يمكن معها تصنيفها في قمة نخبة الاقتصاد المغربي. حدث هذا ما بين سنوات 1929 و1942.
أحد هؤلاء هو صهر وزير الدفاع المغربي الأسبق المهدي المنبهي الذي غادر الوزارة سنة 1907، وهرب من فاس إلى طنجة خوفا على حياته، لكنه مع تغير الأوضاع السياسية في البلاد ومجيء المولى يوسف إلى الحكم سنة 1912، ثم من بعده الملك الراحل محمد الخامس سنة 1927، عاد إلى مراسلة السلطانين إلى حدود أربعينيات القرن الماضي، محاولا استعادة الدور الذي كان يلعبه في دار المخزن.
يشير أرشيف فرنسا الرسمي، المتعلق بميناء الدار البيضاء منذ إعادة بنائه بعد القصف الحربي لسنة 1907، إلى بروز عائلات مغربية نافست المستثمرين الفرنسيين الكبار، الذين كانوا يستفيدون من معاملات تفضيلية وتشجيع من الحكومة الفرنسية على الاستثمار في المغرب.
نبدأ مثلا بعائلة مسجلة باسم آل التركي، حيث اشتغل جيلان من العائلة في قطاع تصدير الزليج المغربي. وكانوا يستقرون في الرباط قادمين إليها من فاس، حيث انتقلوا إلى الاستقرار بها مع انتقال السلطة من فاس إلى الرباط في عهد المولى يوسف ابتداء من سنة 1912، وربطوا علاقة وطيدة مع القصر الملكي. هذه العائلة حققت أرباحا بمئات آلاف الفرنكات من خلال تصدير الزليج المغربي من مدينة فاس، واقتت أسطولا كاملا من الشاحنات، واضطرت إلى انتظار موافقة الإقامة العامة الفرنسية وتدخل السلطان مولاي يوسف من أجلها سنة 1915، لكي يقنع الإقامة العامة الفرنسية بالترخيص لها باستيراد الشاحنات لنقل الزليج «الحر» بكميات كبيرة إلى ميناء الدار البيضاء، ومن ثمة بيعه في كل من إيطاليا وإيرلندا. أما في فرنسا فقد صادفتها صعوبات كثيرة في السنوات الخمس الأولى، ثم استطاعت اقتحام السوق الفرنسي متأخرة، لكن لم يكن حجم معاملاتها بالقوة نفسها التي وصلت إليها في بريطانيا وإيرلندا. وكان عمال الشركة البريطانية يقومون بطبع شعار «Made in Morocco» على صناديق شحنات الزليج المغربي لآل التركي، ولاحظ موظفو الميناء في الدار البيضاء، وكانوا جميعا فرنسيين ذلك الشعار على الزليج، وحاولوا منع عمال الشركة من ختمه، لكن بحكم استقلالية الشركة البريطانية عن إدارة الميناء وعن الإقامة العامة الفرنسية، فقد واصلوا طبع «صنع في المغرب» باللغة الإنجليزية على كل الصناديق.
يرجح أن تكون عائلات أخرى، خصوصا يهود الصويرة قد أوصلوا المنتوج المغربي إلى أوربا والعالم منذ عهد المولى الحسن الأول، أي قبل سنة 1894 بكثير، لكن الهيكلة الإدارية بالصورة المتعارف عليها، أي العصرية، للتصدير المغربي لم تقم إلا بعد إحياء ميناء الدار البيضاء عقب انتقال العاصمة إلى الرباط في إطار خطة المقيم العام ليوطي مباشرة، بعد توقيع معاهدة الحماية مع المغرب.
بالعودة إلى أسرة آل التركي، فإن وساطة مهمة بينها وبين اعبابو، وهو رجل دولة نافذ جدا كان بمثابة مستشار خاص بل وصديق فوق العادة للسلطان مولاي يوسف، حيث كان أقوى من وزراء الدولة وأعضاء المجلس الاستشاري، بل ومنحه المولى يوسف سلطة تعيين وعزل أعضاء في الوزارة والدواوين. هذا الرجل الذي جاء مع المولى يوسف إلى الرباط واستقر لفترة في حي الأحباس بالدار البيضاء، حيث منحه السلطان سكنا بالقرب من القصر الملكي، كان صديقا لأب عائلة التركي، وساعدها على الوصول السريع والقفز على تعليمات الإدارة الفرنسية، وهو الذي توسط لها لدى المولى يوسف. اشترط اعبابو الحصول على أموال من وراء تلك الوساطة، وكان له ما أراد. لكن بوفاة المولى يوسف سنة 1927 وانتقال السلطة إلى السلطان الشاب محمد بن يوسف، توقفت حياة اعبابو، وأمر السلطان محمد الخامس بمصادرة أموال اعبابو كاملة ومنعه من مغادرة المغرب، نظرا لكثرة الشكايات التي تقاطرت على القصر بسبب شططه في استغلال السلطة.
لكن فرنسا لم تفرط في صديقها القديم، نظرا للصفقات التي كان يتوسط فيها للأسر الثرية المغربية مقابل استفادتها من خدمات ميناء الدار البيضاء، وطلبت من السلطان محمد بن يوسف إخلاء سبيل اعبابو، مقابل غرامة لخزينة الدولة المغربية اشترطها السلطان لإخلاء سبيله. أول ما قام به اعبابو بعد إطلاق سراحه التوجه إلى الميناء، حيث غادر المغرب واستقر بفرنسا، إذ كان يلتقي بعض العائلات التي توسط لها في مجال الاستيراد والتصدير. ومن بين هذه العائلات نجد: التلمساني، وبن عبد الجليل، وسليمان وأسرة أخرى باسم بركاش. وسوف نأتي إلى قصصها جميعا.
لماذا لم يسمح للمغاربة مبكرا بتصدير الثروات الفلاحية بختم «صنع بالمغرب؟»
استقرت أسرتا التلمساني وبن عبد الجليل في نواحي الدار البيضاء. وكانتا من الملاكين الكبار لأجود الأراضي الفلاحية. قامتا بشرائها من تجار من الجديدة كانوا على صداقة وطيدة معهما في فاس. هذا النزوح العائلي كان بسبب رغبة هاتين العائلتين في الاشتغال بالفلاحة، وترك التجارة التي كان يتقنها أهل فاس رغم بعدهم عن الموانئ. كان معروفا أن ميناء الجديدة خلال عهد المولى الحسن الأول كان هو الأكثر شعبية لدى الفاسيين، حيث كانت أسر فاسية تبني تجارتها على أساس عائدات نقل البضائع من ميناء الجديدة إلى مدينة فاس، وتدفع أموال طائلة للقبائل بين المنطقتين لتأمين الطريق وضمان وصول البضائع دون سرقات، خصوصا في أيام «السيبة».
فكر التلمساني وبن عبد الجليل، حسب وثائق الأرشيف الفرنسي في طريقة يتجنبان بها دفع مصاريف سنوية مرتفعة جراء عملية النقل من الميناء إلى فاس، وتوصلا إلى أن الحل الوحيد هو الاستقرار في الجديدة وإخلاء مدينة فاس. اتخذ ابنا العائلتين، واسمهما على التوالي مولاي محمد ومولاي عبد الله القرار بالانتقال إلى مدينة الجديدة، ليؤسسا تجارة هناك أساسها تصدير المواد الفلاحية إلى فرنسا.
وحسب وثائق الأرشيف، فإن عملهما بدأ بالضبط سنة 1928، وقاما بتصدير أول شحنة من الخضر عبر سفينة شحن فرنسية. لم يكتفيا بتصدير الخضر، وإنما كانا يستوردان أجود أنواع الثوب من تجار من جنسيات مختلفة، وبدل إرسالها إلى فاس وتحمل مصاريف إضافية، كانا يوجهانها إلى الدار البيضاء ومراكش، وراكما معا أرباح طائلة من تلك التجارة.
وفي منتصف الثلاثينيات، وضعا اسما للشركة التي كانا يديرانها لتصدير الخضر، بحكم وضع قانون تجاري ألزم المغاربة المشتغلين في التصدير، وكانوا جميعا من الأثرياء، حيث أطلقا عليها اسم «الشرفاء لتصدير الخضر» ولا يزال اسمها مسجلا في أرشيف الميناء، ويحتفظ به في متحف الأرشيف الفرنسي في باريس. هذه الشركة كانت تضع شعار النجمة الخماسية المغربية على الصناديق التي كانت توجه إلى التصدير باسمها، إلى مجموعة من الأسواق. لكن فرنسا كانت تضرب قيودا كثيرة ومعقدة على العملية، حتى لا تخلق الخضر المغربية منافسة مع الفلاحين الفرنسيين، وهو ما يفسر ندرة الشركات المغربية التي قامت بتصدير الخيرات الفلاحية المغربية إلى الخارج مبكرا.
في الفترة نفسها التي كان فيها التلمساني ومولاي عبد الله بن عبد الجليل يقيمان في مدينة الجديدة، كان يوجد بها أيضا المقاوم رفيق درب محمد بن عبد الكريم الخطابي وصهره. يتعلق الأمر بـ«بوجيبار»، الذي أبعدته الحماية الفرنسية بعد نفي صهره إلى جزيرة «لارينيون»، ووضعت بوجيبار في الإقامة الجبرية بمدينة الجديدة.
هذه قصة تصدير الصناعات الحرفية المغربية وهكذا تهافت عليها أثرياء مانشستر
كلما ابتعد المستثمرون المغاربة الأوائل عن السوق الفرنسي، إلا وكتب لأعمالهم النجاح. فبعد التلمساني وبن عبد الجليل، اللذين اختفيا وأصبح صعبا تعقب آثار ثروتيهما، خصوصا مع انتشار أخبار عن هجرة أسر مغربية ثرية خارج المغرب، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، مخافة مصادرة فرنسا لأموالها أو خوفا من الاغتيال في المغرب، فقط لأنهما كانا يصدران إلى السوق الفرنسي، فإن أحد أبناء عمومة أسرة بركاش المعروفة في الرباط، والذين تعاقبوا على المناصب المخزنية في الرباط قبل 1912، كتب له أن يلج عالم التجارة ويبتعد عن تخصص العائلة في المناصب المخزنية.
ينتمي محمد بركاش إلى الجيل الثاني للأسرة في الرباط، فجده كان أخا للقاضي الشهير بركاش في الرباط، ووالده كان إداريا في الأملاك المخزنية. بينما الابن الذي درس في المدارس الفرنسية، قرر سنة 1935 أن يبدأ تجارته الخاصة، وانطلق من الدار البيضاء، حيث أسس شركة مغربية يوجد اسمها في لائحة الشركات التي تعاملت مع ميناء الدار البيضاء بإدارته الفرنسية. نجاح قصير تضرر بعده محمد بركاش بتبعات الحرب العالمية الثانية، واضطر إلى إغلاق الشركة. لكن تجربتها القصيرة التي امتدت طيلة النصف الثاني لثلاثينيات القرن الماضي، على مدى خمس سنوات، استطاع خلالها الوصول إلى سوق مانشستر في بريطانيا، حيث باع كميات كبيرة من الخزف المغربي، وراكم أرباح بمئات آلاف الفرنكات، رغم ثقل الضرائب التي فرضتها عليه إدارة ميناء الدار البيضاء. في مثل هذه الحالات لا تنفع الوساطات مع دار المخزن أو العلاقات مع موظفي المخزن مهما علت مراتبهم، بحكم أن إدارة الميناء كانت تابعة مباشرة للإقامة العامة، وترفع تقاريرها إلى باريس.
الخزف الذي كان بركاش يقوم بتصديره إلى بريطانيا، كانت عدة مدن مغربية عرفت بتجارة الخزف، حيث كان ينقل إلى الدار البيضاء ويخزن في مخازن شركة بريطانية للتصدير، ويتم شحنه فور وصول السفن البريطانية إلى ميناء الدار البيضاء. وكانت هذه الشركة البريطانية المسجلة في أرشيف وثائق ميناء الدار البيضاء تحمل اسم «لي. إم برادرز»، وتضع أختام «صنع في المغرب» على واجهة شحنات الخزف. ويحتفظ الأرشيف البريطاني British pathe بمجموعة من المقاطع للسلع المغربية، التي كان الطلب عليها في لندن ومانشستر ومدن بريطانية أخرى مرتفعا. إذ كانت ثقافة البريطانيين عن المغرب مرتبطة أساسا بما يكتب في الصحافة البريطانية، في السنوات التي سبقت فرض الحماية الفرنسية على البلاد سنة 1912. إذ إن الصحف البريطانية كانت تنشر استطلاعات ومذكرات وأخبار بالصور عن المغرب، منذ سنة 1870 تقريبا. لذلك كان الإقبال كبيرا على السلع المغربية في بريطانيا، سيما التقليدية منها.
حكاية البرتقال المغربي وسر وصوله إلى العالم
في سنة 1880 وما بعدها بقليل، إلى غاية 1894، سنة وفاة المولى الحسن الأول ليسدل الستار على فترة مهمة من تاريخ المغرب، كان يهودي مغربي يحمل الجنسية البريطانية بحكم انتقاله النهائي إلى بريطانيا للعيش فيها، يشتغل مستشارا فوق العادة لدى الحكومة البريطانية مكلفا بالملف المغربي. وفي المقابل، كان يحتفظ بصداقة مع القصر المغربي أيام المولى الحسن الأول، وبالتحديد مع الصدر الأعظم باحماد.
كان هذا اليهودي المغربي موسى أفلالو قد انتقل إلى العيش في لندن خلال بداية القرن 19، بعد أن نسج علاقات تجارية وطيدة جدا مع وزراء ومستشارين بريطانيين، ميزوا فترة إدوارد السابع وأمه الملكة إليزابيث.
اعتمد البريطانيون كثيرا على موسى أفلالو، حتى أنه ألف كتابا كان عبارة عن مسح جغرافي للمغرب، بحكم أن أفلالو كان مغربيا حقيقيا يعرف البلاد جيدا، لأنه كان أيضا من كبار التجار في الصويرة، قبل مجيء المولى الحسن الأول إلى الحكم.
وبفضل تقرير أفلالو الذي نشر في كتاب ببريطانيا في عز المنافسة مع فرنسا على استعمار المغرب، استطاعت الحكومة البريطانية أن تضع مخططا لتوجيه اهتمامها نحو مناطق معينة من المغرب، تسهل بذلك على أجهزتها الإدارية استغلال الخيرات الطبيعية في المغرب حسب المناطق.
ومن بين ما انتبه إليه البريطانيون في التقرير جودة الحوامض المغربية، خصوصا البرتقال بمنطقة سوس، حيث ذكر التقرير أن المناخ ملائم جدا لزراعة الحوامض، وأشار إلى وجود ضيعات شاسعة جدا يمكن استغلالها في إنتاج الحوامض لسد الخصاص في بريطانيا، بدل اللجوء إلى استيرادها من أمريكا اللاتينية.
كانت العملية سوف توفر على الخزينة البريطانية ملايين الجنيهات، وهو ما يساوي ثروة خيالية بمعايير اليوم.
وكان الصدر الأعظم باحماد، يتوصل بتقارير مغلوطة من موسى أفلالو، الذي يوهمه بجدوى الصداقة مع بريطانيا وما ستجره من عائدات على المغرب. في حين أن تقريره الذي كتبه بخط يده لم يكن يتضمن أية إشارة إلى استفادة الاقتصاد المغربي من الموضوع، باستثناء طباعة «Made In Morocco» على الحوامض الموجهة إلى أسواق لندن والمدن البريطانية الكبرى، ومنها مدن دول الاتحاد وقتها أيام «المملكة المتحدة».
ورغم أن بريطانيا فشلت في سباقها مع فرنسا على المغرب، إلا أن التقرير القيم الذي وضع بين يدي المسؤولين على الاقتصاد البريطاني، ظلوا يركزون على المغرب وجهة اقتصادية في القرن 19. وما يفسر الأمر، وجود فروع شركات بريطانية كبرى في ميناء الصويرة، واغتناء عائلات مغربية محظوظة من وراء تلك المبادلات التجارية.
الاستيراد والتصدير كانا دائما مجالين لظهور فئات طبقية في المغرب، ظهرت في التاريخ أو اختفت، حسب الأداء الاقتصادي لأفرادها. لكن المثير أن ظهور هذه العائلات ارتبط بما هو سياسي وليس اقتصاديا، إذ إن بعضها اضطر إلى مغادرة المغرب نهائيا، ليصبح مصيرها مجهولا رغم أنها من أوائل الأسر المغربية التي نجحت في الاقتصاد، بل وأوصلت الماركة المغربية إلى العالمية. رغم أنها نجحت اقتصاديا، إلا أنها لم تكن مسنودة سياسيا، لتنتهي مختبئة في أرشيف لوائح معاملات ميناء الدار البيضاء والجديدة. وكلاهما ميناءان اعتمد عليهما الاقتصاد الفرنسي كثيرا، منذ توقيع معاهدة الحماية مع المغرب سنة 1912.