تاج الدين الحسيني: استثمار المغرب لدبلوماسيته الصحية سيعزز مكانته الدولية
مع تيلي ماروك
تاج الدين الحسيني في أسطر : أستاذ القانون الدولي بالرباط نائب رئيس مركز دراسات الأندلس وحوار الحضارات رئيس منتدى 21 للحوار والتنمية محام مقبول لدى محكمة النقض من مؤلفاته: سياسة الوفاق (أسبابها ومظاهرها ومضاعفاتها) - الوجيز في القانون الدولي الاقتصادي - المجتمع الدولي وسياسة التدخل.
يواجه العالم اليوم أزمة حادة بسبب انتشار وباء كورونا المستجد، وهي الأزمة التي أثرت بشكل كبير على عدد من الدول وباتت تهدد بتداعيات خطيرة تبعثر أوراق النظام العالمي، بل تتواصل الهزات الارتدادية لما بعد كورونا لتنذر بنظام عالمي جديد، فيما قادة العالم والدبلوماسيون ومحللو الجغرافيا السياسية يدركون أنهم شهود على انبلاج فجر عصر جديد، تحت أمل النجاح في مكافحة الوباء والرهبة مما ستخلفه هذه الأزمة من إرث للعالم.
في هذا الحوار مع تاج الدين الحسيني، أستاذ العلاقات الدولية، نقرأ تداعيات أزمة كورونا على المنتظم الدولي، وتستشرف معالم النظام العالمي الجديد الذي بدأت ملامحه تلوح في الأفق مع بوادر انحسار الوباء العالمي، وتقرأ مستقبل العلاقات الخارجية للمغرب مع دول الجوار الإقليمي، والقارة.
ما تقييمك للإجراءات التي اتخذها المغرب في إطار العلاقات الدولية في مجال حماية المواطنين من انتشار فيروس كورونا؟
+ في إطار العلاقات الدولية، وإذا أردنا أن نقارن الإجراءات التي اتخذتها كل دولة في مواجهة هذا الوباء، بمثيلاتها من الدول على صعيد التنمية، وفي هذا الإطار، إذا قمنا بمقارنة المغرب بدول الجوار، ليس فقط البلدان النامية بل حتى الدول المتقدمة، نجد أن المغرب تميز بسياسة استباقية في التعامل مع الوباء. ويشير معهد «توماس مور»، وهو أحد المعاهد المعروفة، في شخص مفوضه الرئيسي، من خلال دراسة نشرت بمجلة «لو بوان» الفرنسية، (يشير) إلى أن المغرب، بالمقارنة مع دول الجوار، سخر إمكاناته البشرية والمالية لمواجهة هذا الوباء بشكل نموذجي، بل إن المعهد اعتبر، في مقاربته، أن النموذج المغربي هو نموذج قابل للاستنساخ في عدد من الدول الإفريقية، وأن المسألة ليست مسألة وسائل فقط وإنما مسألة تفاعل، وهو الذي ظهر خلال هذه الأزمة.
وفي اعتقادي، فإن ما أشار إليه المعهد هو ملاحظ وموضوع فعلا في المبادرة المغربية، وهي المبادرة التي تميزت بعدة عناصر إيجابية.
– ما هي هذه العناصر ؟
+ العنصر الأول هو أن المغرب بادر، مباشرة عند ظهور أولى الإصابات في إيطاليا وإسبانيا، إلى وقف الرحلات الجوية، ثم، في مرحلة لاحقة، إلى الاعتماد على برتوكول علاجي باستخدام مادة «الكلوروكين». وعلى الرغم من أن عددا من الدول لم تثق في استعمال هذا العلاج، وأن منظمة الصحة العالمية لم تتخذ قرارا بشأن اعتماده، إلى جانب دول متقدمة من حجم الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، فالمغرب قرر استخدام وإدماج هذا العنصر في العلاج إلى جانب بعض الأدوية معتمدا على نتائج دراسة للجنة مختصة مغربية.
الجانب الثالث يتمثل في تلك القرارات الاستباقية بتطبيق الحجر الصحي الشامل، وتعميم الأقنعة الواقية بالنسبة للجميع، على الرغم من أن هذه المسألة لا تزال في وضعية خلافية حتى في عدد من الدول بين من تعارض الحجر الصحي والمتمسكة به، وكذلك التوجه الرسمي نحو تعبئة قطاع النسيج للتصنيع المحلي للأقنعة الواقية، وهذه المسألة تحسب أيضا للمغرب، في وقت مازالت عدد من الدول الأوربية وأمريكا عاجزة عن تغطية الخصاص من الكمامات، ليس فقط للمواطنين بل حتى للأطر الصحية التي توجد في الواجهة. ناهيك عن أنه في المغرب هناك مبادرات لصناعة جهاز تنفس اصطناعي مائة في المائة، وأعتقد أن كل هذه العناصر إيجابية في تعامل المغرب مع أزمة كورونا.
- هل ستكون لقرار إغلاق الحدود آثار سلبية على الدبلوماسية المغربية في العلاقة مع دول الجوار، وخاصة الأوربية؟
+ قرار إغلاق الحدود فرضته الظرفية الوبائية، التي تعطي لكل دولة، في إطار سيادتها الوطنية، الحق في اتخاذ قرارات مماثلة. وأظن أن هذا الإغلاق لم يتم من طرف المغرب بكيفية جزافية، بل تم في إطار مشاورات معروفة بين الملك محمد السادس والعاهل الإسباني من جهة، وبينه وبين الرئيس الفرنسي من جهة ثانية، وقام العاهل المغربي بهذه المشاورات قبل صدور القرار، بل إن كل الدول تفهمت القرار المغربي بل وحذت حذوه، ولذلك لا أظن أن مثل هذا القرار قد تكون له أي مضاعفات على المستوى الدبلوماسي، أو على مستوى العلاقات الدولية والثنائية للمغرب.
– هل من شأن الأزمة الحالية إعادة ترتيب الأولويات الدبلوماسية للمغرب؟
+ معلوم أن الحقل الدبلوماسي المغربي، منذ وصول الملك محمد السادس إلى الحكم، لم يعد بمثابة ما يسمى المجال المحفوظ للقصر الملكي، كما لم يعد الأمر مقتصرا على الدبلوماسية التقليدية أو الرسمية التي تمارسها وزارة الخارجية، بل أصبح مفهوم الدبلوماسية، وهذا جاء في خطب ملكية واضحة، هو الدبلوماسية الموازية، التي ينبغي أن تكون دبلوماسية برلمانية وحزبية وجمعوية واقتصادية وغيرها.
واليوم، ومع ما حدث من خلال أزمة كورونا، يمكن القول إن الحديث عن الدبلوماسية الصحية سيكون مطروحا بقوة، خاصة في الوسط الإفريقي، والمغرب سيكون مستعدا، كما كان عليه الأمر دائما من أجل أن تكون استثماراته، وهو أول مستثمر في إفريقيا الغربية، وثاني مستثمر على صعيد القارة، أن تكون هذه الاستثمارات، وهذه الدبلوماسية الصحية ليست جديدة في السلوك المغربي، ومنها إنشاء المستشفيات الميدانية للقوات المسلحة الملكية في عدة بلدان إفريقية. وأعتقد أن هذا التوجه الذي اتخذه المغرب سيتسع خلال هذه الأزمة، وأعتقد أن هذا النوع من ترتيب الدبلوماسية المغربية بالتركيز على الجانب الصحي، سيكون له عظيم الأثر الإيجابي على موقع المغرب الدبلوماسي، خاصة داخل منظمة الاتحاد الإفريقي.
– أين يمكن أن يتجلى الحضور المغربي القوي في الاتحاد الإفريقي خلال هذه الأزمة؟
+ انطلاقا من كل ما ذكرته، يمكن القول إن الطلب على الدعم المغربي يتنامى في عدد من الدول الإفريقية، ومن هذا الاتصال الذي كان أجراه الرئيس المالي بالعاهل المغربي، حول تزويد أحد المستشفيات العسكرية في ضواحي باماكو بالوسائل التقنية وبعض المتخصصين لمساعدة مالي في مواجهة انتشار الوباء. وأعتقد أن هذا النوع من ترتيب الأولويات الدبلوماسية في إطار الاعتناء بالدبلوماسية الصحية، سيكون له أثر كبير على موقع المغرب في المنظمة الإفريقية.
– هل تصب مباحثات الملك مع قادة القارة حول مبادرة مشتركة لمواجهة الوباء، في منحى تأسيس منظمة الصحة الإفريقية؟
+ بالفعل فكرة خلق منظمة الصحة الإفريقية مطروحة وستطرح نفسها بقوة في المستقبل القريب، وأعتقد أن هذا الطرح يرتبط بالوضعية التي تعيشها البلدان الإفريقية في مواجهة هذه الأزمة، والتي ربما ستعيش اليوم أزمة تفوق في حدتها تلك التي عاشتها في 2007 و2008، وبالتالي فإن جل البلدان الإفريقية وراء الصحراء ستكون عاجزة عن إنقاذ نفسها بنفسها، وربما المغرب هو من البلدان القليلة التي أعطت هذا النموذج على مستوى إنقاذ وضعه الداخلي وبوسائله المحلية، ولم يكن ذلك إلا نتيجة حتمية لروح المبادرة التي قادها الملك محمد السادس، وروح الالتزام لدى المواطنين.
– ماذا عن المبادرة التي قادها الملك مع بعض القادة الأفارقة بخصوص دعم الجهود الإفريقية لمواجهة الأزمة؟
+ أعتقد أن هذه المبادرة التي تمثلت في المباحثات عن بعد بين الملك محمد السادس والرئيس السنغالي، ماكي سال، والرئيس الإيفواري لاسان واتارا، تتجه لوضع إطار عملياتي لمصاحبة القارة في مختلف المراحل المرتبطة بمواجهة الجائحة، وهي مبادرة ذات بعدين، بعد لحظي مرتبط بتدبير الجائحة في البلدان الإفريقية، التي يعاني عدد منها الفقر المطلق في بعض مناطقها، وبعد استشرافي مرتبط بالتعاون بين البلدان الإفريقية لمواجهة الأزمة.
– في مقابل هذا الزخم الإفريقي، هناك وضعية ملتبسة بدأت تشهدها بعض الاتحادات الدولية، هل ستتسبب أزمة كورونا في تفكك بعض الاتحادات الإقليمية؟
+ فعلا فعدد من الاتحادات الإقليمية والاندماجات أصبحت تتعرض للاختلال وانعدام التوازن بسبب الأزمة الحالية المرتبطة بانتشار وباء كورونا، لكن ما يمكن قوله هو أن هذه الاختلالات والأزمات سبقت كورونا في بعض الاتحادات، كما هو الشأن مثلا بالنسبة لاتفاقية (ناستا) التي تجمع بين الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول جوارها، والتي تأثرت بالسياسة الانعزالية التي بدأت تنهجها أمريكا في عهد الرئيس الحالي.
ويمكن أن نلاحظ هذا الاختلال، أيضا، في الاتحاد الأوربي، وهو الذي ظهر مع بريطانيا وانتهى بتحقيق «البريكست» وانفصال بريطانيا، لكن مع أزمة فيروس كورونا المستجد، لاحظنا أن عددا من الدول الأوربية أصبحت لا تتقاسم التصورات لحل الأزمة، بل باتت تظهر عدد من المواقف الجريئة تجاه الاتحاد، ووصول اليمين المتطرف إلى سدة الحكم في عدد من الدول الأوربية، بالإضافة إلى الأزمة الحالية، بدأ يهدد كيان الاتحاد الأوربي، وقد لاحظنا كيف أنه في بعض المؤسسات الإيطالية، وربما كان ذلك تحت إطار المجتمع المدني، كيف تم إنزال العلم الأوربي وتعويضه بالعلم الصيني، وبالتالي فالمشروع الأوربي مرشح للانتهاء في حال لم يتم التوصل إلى اتفاق لإنهاء الأزمة.
– في إطار حديث قادة عدد من الدول عن أن بلدانهم تواجه حربا، تبرز بقوة نظرية المؤامرة والحرب البيولوجية في ظل أزمة كورونا هذه، ما مدى جدية هذا الطرح؟
+ أعتقد أن مثل هذا الحديث يمكن أن يندمج في ما هو واقعي، كما يمكن أن يدخل في ما هو وهمي، وبطبيعة الحال، فمراوحة المكان بين ما هو واقعي وما هو وهمي، يصعب الحسم فيه، لكن إذا نزلنا إلى الواقع فإن التعديل الجيني للفيروسات أصبح ممكنا، والخطير هو أن عددا من الدول أصبحت تتوفر على مختبرات للتلاعب في الفيروسات، ويدخل ذلك في إطار ما يمكن أن نسميه بالأسلحة البيولوجية، ولا أدل على ذلك من عدد من الاتفاقيات التي تهدف إلى الحد من امتلاك أو استعمال تلك الأسلحة.
وهناك الكثير من التصريحات التي تصب في تغذية نظرية المؤامرة، ومنها تصريحات من الجانب الصيني والإيراني التي تتهم الجيش الأمريكي بأن له يدا في انتشار الوباء، وتصريحات الرئيس الأمريكي الذي يتهم المختبرات الصينية بالتلاعب في تركيبة الفيروس.
– برز بقوة التحرك الصيني في هذه الأزمة من خلال ما يعرف بالدبلوماسية الصحية، هل نشهد ارتفاعا للأسهم الصينية دوليا؟
+ صعود الصين دوليا أمر ليس بالقديم، فالمقولة المأثورة تقول: «عندما تستيقظ الصين يتزلزل العالم»، وهذه مقولة معروفة في علم السياسة، وقد كنت قدمت منذ حوالي 18 سنة محاضرة في أكاديمية المملكة، وأشرت خلال هذه المداخلة إلى دراسة تشير إلى أن القرن الحادي والعشرين سيعرف إزاحة الولايات المتحدة الأمريكية عن عرش الأحادية القطبية، وبروز قوة أخرى على رأسها الصين، وإلى حد ما بدأت تتأكد هذه المقولة، وربما فكرة نهاية النفوذ الأمريكي أصبحت مطروحة بقوة، فيما بروز الصين لن يكون كقوة عالمية أحادية كما كان الشأن بالنسبة للولايات المتحدة في أوائل التسعينات. وهناك قراءات دولية لمحللين ومتخصصين كلهم أجمعوا على أن أزمة كورونا ستكون حدثا مفصليا في السياسة الدولية، ويمكن مقارنة الأزمة الحالية بحدث انهيار جدار برلين، وانهيار المعسكر الاشتراكي. وشخصيا يمكن أن أقول إن ما يحدثه وباء كورونا أخطر من هذا بكثير، على اعتبار أننا لسنا في مواجهة حدث سياسي أو اقتصادي مستقل، بل يشكل خلطا غريبا بين هذه الأزمات، أو ارتدادات متكررة، فربما نحن لم نتصور بعد كل العواقب الخطيرة التي ستترتب عن أزمة كورونا، وهي العواقب التي ستشمل العديد من المجالات.
- ما هي الملفات الراهنة دوليا التي يجب حلها بعد انتهاء أزمة كورونا؟
أعتقد أن أول الملفات المستعجلة التوصل إلى لقاح فعال، وهذا الأمر أساسي في تقديري، على اعتبار أن العلماء لم يحسموا فيه بعد، ثم في المرتبة الثانية تطوير هذا اللقاح على اعتبار أن فيروس كورونا من الفيروسات التي تتطور وتتغير تركيبتها، وهو الأمر الذي قد يجعلنا في مواجهة موجات موسمية للوباء، وفي المرتبة الثالثة تجب إعادة النظر في الكفاءات المجتمعية والمكانة التي يجب أن تحظى بها بعض الفئات الأساسية التي برز دورها المحوري خلال هذه الأزمة، وعلى الخصوص مهنيي الصحة، وأعتقد أن من الملفات الأساسية التي ستطرح كذلك، إعادة النظر في دور الأمم المتحدة، بالمؤسسات التابعة لها، وخاصة منظمة الصحة العالمية.
ويمكن التأكيد على أن العالم سيعرف نظاما جديدا من الحوكمة العالمية، وهو النظام الذي يقوم على فك الارتباط بين الإمكانات المتوفرة لتحقيق التنمية ومعايير الديمقراطية، وربما هذا النظام الجديد سيتأثر بالنموذج الصيني، حيث يهيمن الحزب الشيوعي والقوة المركزية، وإعطاء الأولوية للتنمية على حساب الديمقراطية.