هكذا بدأ سوق الإشهار المغربي.. من اللافتات إلى وصلات التلفزة
مع Télé Maroc
ثلاث شركات استحوذت على إشهار التلفزيون، منذ سنة 1972. تنافست في ما بينها على صناعة إشهار لمختلف المنتجات المغربية والأجنبية، واستعانت بخدمات الممثلين المغاربة والفرق الغنائية، وحتى فناني الفرجة الشعبية لصناعة إشهارات عُمرها ثوان قليلة، لكنها بصمت ذكريات أجيال متلاحقة.
بدأ سوق الإشهار في المغرب مع الأبناك والفنادق في منطقة طنجة الدولية منذ سنة 1880، وبعدها انتقل إلى مدينة فاس مع كبار المسؤولين الفرنسيين الذين حاولوا إدخال علامات الحياة العصرية إلى فاس، قبل أن يتأجل المشروع إلى ما بعد سنة 1912، حيث أصبح سوق الإشهار المغربي واعدا في المجلات وواجهات المحلات، قبل أن يلج الراديو، ثم التلفزيون. الإشهار على الطريقة المغربية.. قصة تستحق فعلا أن تُروى.
وُلدت سنة 1972.. عائلات «صناعة الإشهار» المغربية
«شمس للإشهار»، و«طوب إشهار» و«كليم»، هذه أسماء أبرز الشركات التي أنتجت الإشهار للتلفزيون، في بداية سبعينيات القرن الماضي، حيث دخل الإشهار في المغرب ثورة كبيرة، بدأت بإشهارات الخدمات كالأبناك والإدارات، والمواد الاستهلاكية.
هذه الشركات لملاكها على التوالي، نور الدين عيوش، ثم «كوليت عمرام»، والقادري الذي كان المساهم الرئيسي في الشركة الثالثة، استفادوا من «ثقافة» الإشهار التي ترسخت في المغرب مع بداية القرن العشرين، والتي كانت منتشرة في الشوارع على اللوحات الإشهارية وعلى أمواج الراديو، ثم في الصحف والمجلات التي كانت توزع في المغرب، وأسسوا ثلاثتهم لتجربة جديدة في سوق الإشهار المغربي، وكان لهم السبق في إدخال الإشهار إلى التلفزيون، معتمدين على الوصلات الغنائية والموروث الثقافي المغربي، ما بين سنتي 1972 و1976. حيث كانت شركات عالمية لبيع المواد الاستهلاكية ومواد التجميل والآليات الإلكترونية تلجأ إلى خدمات هذه الشركات الإشهارية، لكي «تُمغرب» لها عمليات البيع بتأليف الأغاني بالدارجة المغربية، والتي تذكر مزايا تلك المنتوجات بشكل جعلها تحظى بشعبية كبيرة بين المغاربة من مختلف الفئات الاجتماعية، على اعتبار أنهم تعرفوا على ثقافة الإشهار بالصوت والصورة لأول مرة في تاريخ المغرب.
كانت 1972 إذن سنة محورية في عالم الإشهار المغربي، إذ إن صناعة ما يصطلح عليه بـ«الأفلام الإشهارية القصيرة» كانت صناعة جديدة في المغرب وغير مسبوقة، وجاءت بعد أزيد من سبعين سنة على بداية تعرف المغاربة على الإشهار الكلاسيكي المتمثل في اللوحات الإعلانية أعلى البنايات والمتاجر، بالإضافة إلى الإعلان في الراديو والمجلات. بالنسبة إلى الراديو، فقد بدأت أولى الوصلات الإشهارية في البث ما بين سنتي 1928 و1933، موعد أول بث عربي في الراديو الذي كان تابعا للإدارة الفرنسية بالرباط، قبل أن تتأسس الإذاعة المغربية التي رسخت لصناعة إشهار مغربي خالص، بدأ بحملات توعوية وسرعان ما شمل مواد الاستهلاك أيضا.
أما على مستوى المجلات، فقد كانت المنشورات الفرنسية في المغرب، وفي طنجة التي كانت منطقة دولية، تعرف فائضا كبيرا في العرض على سوق الإشهار، وكان الطلب عليها كبيرا أيضا.
ليأتي التلفزيون بعد ذلك ليرسخ للصورة، حيث تولت الشركات المذكورة عملية «مغربة» الإشهار، ورأى المغاربة دعايات لاقتناء سيارات فرنسية بوصلات مغربية، ولجأت الشركات إلى وجوه مغربية، خصوصا الفنانة والوزيرة السابقة «ثريا جبران»، التي حظيت وصلة إشهارية لها لمزايا سيارة حديثة، ما بين سنوات السبعينيات والثمانينيات، بشهرة تضاهي شهرة أعمالها المسرحية.
الفرق الغنائية المغربية وثنائيات الفكاهة نالت نصيبها من كعكة الإشهار المغربي، فقد لجأت هذه الشركات إلى خدماتها، لتأليف مقاطع موسيقية شعبية وحوارات ساخرة وخفيفة لصناعة محتوى الإشهار، الذي كانت تنتجه تلك الشركات المتنافسة في ما بينها وتبيعه إلى التلفزة المغربية.
المثير في هذا الموضوع، أن هذه الشركات استحوذت على السوق لسنوات، قبل أن تولد شركات أخرى أشيع أنها كانت مملوكة لرجال أعمال مغاربة نافذين، ونالت نصيبها هي الأخرى من سوق الإشهار،
سيما وأن بعض الشركات الأجنبية كانت تعاني من صعوبات في ولوج سوق الإشهار المغربي للترويج لعلاماتها التجارية في التلفزة المغربية، بالطريقة نفسها التي تُنافس بها شركات أجنبية يعود وجودها في المغرب إلى فترة الحماية الفرنسية.
هذه الشركات الأجنبية الجديدة، وجدت صعوبات كبيرة جدا في اقتحام سوق الإشهار، من خلال الوكالات الأجنبية أو العالمية التي كانت تنتج وصلات إشهارية معتمدة حول العالم. إذ كان لا بد من «مغربة» الوصلات الدعائية، لكي تعرف طريقها إلى شاشة التلفزة المغربية. وهذا الطريق كان لا بد أن يمر عن طريق الشركات التي استحوذت على كعكة الإشهار الجديد.
شركات فرنسية استغلت صورة محمد الخامس للترويج التجاري
«مجلة المغرب» التي كانت تصدر في المغرب خلال بداية ثلاثينيات القرن الماضي، تجمع أرشيفا للإشهارات يعود إلى سنة 1932، ويعكس كيف كان سوق الإشهار بالمغرب.
هذه المجلة التي كانت توصف بأنها معتدلة، مقارنة مع المجلات الفرنسية التي كان خطها معاديا للمغرب، كانت تضم صفحات إعلانية لماركات وشركات فرنسية في المغرب. وشركات كانت عبارة عن شراكة بين المغرب وفرنسا، مثل الشركة المغربية الفرنسية لتوزيع بعض المنتجات مثل الأدوية والمواد الصناعية، بما فيها المبيدات. ثم إشهارات أخرى للخدمات مثل الفنادق والنقل البحري، الذي كان معتمدا في المغرب لنقل الحجاج، وتنافست حوله شركات فرنسية رائدة في النقل البحري للمسافرين، قبل انتشار رحلات الطيران.
المثير أن هذه المجلة المغربية، التي كان مديرها من أصول جزائرية وهو محمد الصالح ميسة، كان ينشر إشهارات لشركة نقل بحري فرنسية، تستغل صورة الملك الراحل محمد الخامس، والذي سبق له السفر على متنها في رحلة إلى فرنسا. لتعمد الشركة الفرنسية إلى مخاطبة المسافرين والحجاج المغاربة، وتعرض صورة الملك الراحل محمد الخامس على متن باخرتها، وتكتب أن السلطان اختار تلك الشركة دون غيرها ووثق في خدماتها، وتدعو المغاربة إلى الاقتداء بالسلطان واختيار باخرتها لرحلات الحج. هذا الإشهار كان يُنشر في أعداد متلاحقة للمجلة ما بين سنتي 1933 و1939، وهو ما يكشف أن القصر لم يكن يمانع وقتها أن تنشر صور السلطان على متن باخرة تجارية في الدعاية لتلك الشركة.
والراجح أن سوق الإشهار الذي كان في بداياته وقتها، لم يكن خاضعا لرقابة من أي نوع، عكس خمسينيات القرن المنصرم، حيث دعت الحركة الوطنية إلى عدم استغلال رموز الدولة المغربية في الإشهار ورفضت إشهارات للخمور، كانت تنشر سابقا في المجلات والصحف الفرنسية بكل حرية، ومنعت تعليق إشهارات التبغ في واجهات المحلات، على اعتبار أنها كانت تشجع على نشر عادة تدخين السجائر المستوردة بين المغاربة.
بالعودة إلى أرشيف هذه المجلة التي كانت تحمل اسم «المغرب»، يمكن رصد إعلانات دعائية لمختلف الثقافات والأقليات في المغرب. إذ إن تلك الإعلانات كانت موجهة خصوصا إلى المغاربة، لكنها تخاطب أيضا فئات أخرى في البلاد، أبرزها الفرنسيون من مختلف الطبقات الاجتماعية.
إعلانات لأدوية ومراهم، بالإضافة إلى إعلانات لخدمات شركات النقل الأولى في المغرب، وشركات تتعامل مع الحرفيين المغاربة. كان التحدي الوحيد أمام انتشار ثقافة الإشهار من هذا النوع، هو ارتفاع معدلات الأمية بالمغرب، وهو ما كان يشكل عقبة أمام هذه الشركات للتواصل مع المغاربة وقتها، قبل أن يلج الإشهار جهاز الراديو بعد 1956، حيث اعتمدت عليه الدولة خلال حملات التوعية، وفي أثناء أول إحصاء في المغرب للسكان بعد الاستقلال. قبل أن تأتي سنة 1972 لكي تنطلق ثورة الإشهار التلفزي.
الأبناك والفنادق أول من بدأ الإشهار في الشوارع منذ 1880
لم يكن الإعلان معروفا في المغرب حتى عندما تأسست أولى الشركات في تاريخ البلاد، والتي كانت شركة مغربية بريطانية تحمل اسم «البربر»، والتي تعود إلى القرن 17. فهذه الشركة لم تبادر إلى إطلاق أي إعلانات، بحكم أن خدماتها وأنشطتها مرتبطة أساسا ببريطانيا وليس بالمغرب. إذ إن مكتبها الوحيد الذي كان في المغرب، كان عبارة عن إدارة لتدبير استيراد السلع عبر الميناء، وأخذ المواد التي يتم اقتناؤها من المغرب لكي تُصنع في بريطانيا.
لذلك لم يكن موضوع الإشهار مطروحا في ذلك الوقت، بينما مع بداية انتشار تجارب الأبناك والفنادق والمقاهي في طنجة الدولية، مع بداية فترة 1880، أصبح موضوع الإشهار مطروحا بقوة. إذ إن أول الفنادق التي تأسست في طنجة، بمعايير دولية في تلك الفترة، بدأت ترسخ لثقافة الإشهار.
وتوجد إشارات اليوم إلى ممارسة فندق «كونتينونتال» الشهير لحملات إشهارية لاستقطاب الوافدين على طنجة، خصوصا وأن المنافسة بين الفنادق الصغرى التي بناها الإسبان في المدينة، كانت على أشدها، وكان المالك الأول لفندق «كونتينونتال» المطل على الميناء، والذي لا يزال موجودا إلى اليوم، يحتاج إلى حملة دعائية حقيقية لكي يربح المنافسة، سيما وأن هذا الفندق كما يشهد الصحافي والتر هاريس، أحد أشهر من عاشوا في طنجة في تلك الفترة دائما، كان ينظم رحلات صيد للسياح في الطريق نحو العرائش، ويمارس الدعاية لاستقطاب البريطانيين الذين كانوا يعيشون في المدينة، لكي يستفيدوا من تلك الخدمات الترفيهية.
وفي ظل وجود جاليات أجنبية في عاصمة البوغاز، خصوصا الإسبان والبريطانيين ثم الفرنسيين والألمان وعائلات إيطالية أيضا، كانت الأبناك الأولى التي فتحت وكالاتها في طنجة، تحتاج إلى ممارسة الإشهار، وهو ما جعلها تضع لوحات إعلانية ضخمة فوق العمارات التي فتحت بها وكالات تلك الأبناك، لتكون بذلك مؤسسة لمفهوم «الإشهارات» واللوحات الدعائية في المغرب.
ومع انتشار الطباعة وبداية ظهور الصحف الأجنبية في المدينة، سيما وأن الأجانب الذين كانوا يعيشون في طنجة نقلوا تجارب المدن الأوروبية إلى المغرب وإلى إفريقيا عموما منذ القرن 19، بدأ الإشهار يعرف انتشارا في المدينة، بحكم وجود صفحات للإعلانات في تلك الصحف الناطقة بالفرنسية والإسبانية والإنجليزية. لتكون تجربة طنجة من التجارب النادرة وقتها في العالم، حيث تتعايش ثقافات كثيرة في الرقعة الجغرافية نفسها، وهو ما جعلها تستحق لقب «طنجة الدولية» فعلا. إذ كانت المطبوعات القادمة من أوروبا تحمل في صفحاتها إعلانات للساعات الذهبية والمراهم والأدوية، وكانت تحظى باهتمام هؤلاء الأوروبيين الذين بدؤوا فعلا في فتح محلات تحمل اسم تلك الماركات الأوروبية، ويحاولون الترويج لها في المغرب.
وهو ما جعل سوق الإشهار يبدأ مبكرا في طنجة، لتلتحق بها الرباط والدار البيضاء عقب ذلك، بعد سنة 1912، ثم فاس بدرجة أقل، بحكم المنافسة السياسية ومواقف الحركة الوطنية المناهضة للوجود الأجنبي في المغرب.
إشهار سيارة كاد يتسبب في حرب أهلية بفاس
لم يكن سرا أن الأجانب الذين جاؤوا إلى مدينة فاس، بعد سنة 1894، أي عقب وفاة المولى الحسن الأول، كان بعضهم يشتغلون رجال أعمال يحاولون تأسيس مشاريع تجارية مربحة في المغرب، أغلب هؤلاء كانوا يحملون الجنسية الفرنسية والبريطانية.
وقد حاول بعضهم بيع مشروع إدخال السيارات إلى المغرب، واستهدفوا الأعيان المغاربة الذين كان جلهم مستقرين في فاس، بناء على تقارير سابقة أعدها أجانب عاشوا في المدينة خلال عهد المولى الحسن الأول، وقدروا أن تكون ثروة بعضهم تمكنهم فعلا من اقتناء السيارات الأوروبية والساعات اليدوية الفاخرة، بل وأجهزة تلفون أيضا. وبناء على تلك التقديرات، حاول بعض رجال الأعمال الفرنسيين والإنجليز الدخول إلى القصر الملكي بفاس، ومحاولة الفوز بصفقة لإحضار سيارات لهؤلاء الأعيان المغاربة. لكن خيبة أملهم كانت كبيرة جدا، إذ إن علماء فاس سارعوا إلى تعميم فتاوى، باتفاق مع علماء مراكش مع بداية سنة 1903، أعلنوا فيها أن التعامل مع الفرنسيين محرم شرعا، ومنعوا ركوب السيارات الأجنبية، وكانت تلك الفتاوى رصاصة الرحمة على المشروع.
إلى درجة أن «كاتالوغ» لسيارة «مرسيدس» كاد أن يثير حربا أهلية في فاس ضد الفرنسيين، حيث كان الكتيب يحمل رسومات لشكل السيارة الألمانية وقتها ومزاياها، ويدعو إلى تجربة ركوبها، وكان الملصق يحمل رسما لرجل ومعه سيدتان يداعب الريح شعريهما، وهما تركبان إلى جوار السائق في جولة بتلك السيارة.
كان ذلك الرسم كافيا لإثارة الغضب، سيما وأن الفقهاء تحدثوا عن لعنة سوف تصيب سكان فاس، إن هم تعاملوا مع ما يحضره الأجانب معهم إلى المغرب.
مراجع تاريخية كثيرة تحدثت عن بداية اجتياح مظاهر الحياة الأوروبية لحياة المغاربة، بينما «زمن المحلات السلطانية» الذي تحدث بإسهاب عن فترة 1894 و1903، وتناول تلك الكراهية الكبيرة التي كان يكنها المغاربة لكل ما هو أوروبي بتجييش من العلماء المحافظين.
إلى درجة أن وصول وفد دبلوماسي إلى فاس على متن سيارة، كان لينتهي بطريقة مأساوية، لولا أن جنود المولى عبد العزيز تولوا تأمين الموكب إلى أن دخل القصر الملكي بفاس. وسرعان ما انتشرت الشائعات بخصوص ركوب المولى عبد العزيز تلك السيارة، وقيامه بجولة بها في نواحي مدينة فاس. وتحدث بعض العلماء عن كون تلك السيارة تسير بقوة «الأرواح الشريرة»، وأن ركوبها لا يجوز للمسلمين، وهو ما جر غضبا كبيرا على السلطان الشاب، الذي كان مولوعا بآلات التصوير وجهاز التلفون، ولديه ثقافة عصرية بخصوص الاختراعات الجديدة.
مرت سنوات كثيرة ليكتشف نُخب المغرب، وفاس على الخصوص، أنهم ظلموا المولى عبد العزيز كثيرا بشأن واقعة ركوب السيارة، عندما تسابق كبار الأعيان، بل والعلماء أيضا لاقتناء السيارات الأمريكية في أربعينيات القرن الماضي، حيث لعب الإشهار دورا كبيرا في رفع مبيعاتها بالمغرب.
سوق الإعلانات الموجهة للمغاربة تأسست في الراديو منذ 1933
كانت هذه السنة، انطلاقا لساعات البث العربي على أمواج الراديو الاستعماري بالمغرب، والذي كان يحمل اسم «راديو ماروك»، وليس راديو «المغرب».
إذ بعد ست سنوات بالضبط على تأسيس هذا الراديو سنة 1928، أعطيت الانطلاقة لاستعمال اللغة العربية والدارجة لمخاطبة المغاربة من خلاله.
وبدأت صناعة أول الإشهارات الترويجية لمواد مثل الصابون وأدوية الصداع، والحملات التحسيسية، التي دخلت بيوت المغاربة وطرقت «آذانهم».
الوصلات الإشهارية كانت تعكس السياسة الفرنسية الحقيقية بالمغرب. ففي الوقت الذي كان فيه أعوان السلطة المغاربة، الذين اتهموا بالخيانة وكان مصيرهم مأساويا سنة 1956، يحاولون حشد المواطنين البسطاء وإجبارهم على حضور حملات الإقامة العامة، كان الراديو هو وسيلة الإجبار الأكثر قوة، إذ كانت الحملات التحسيسية تبث على مدار الساعة، باللغتين الفرنسية والعربية، للدعاية إلى مقررات الإقامة العامة، خصوصا في ما يتعلق بالتلقيح ضد الأمراض والأوبئة، وحصص توزيع الأدوية والطعام، ثم جمع المتطوعين في الأشغال العمومية كتشييد الطرق والقناطر. بالإضافة إلى تسجيل الأبناء في سجلات الحالة المدنية، وغيرها من المحطات التاريخية التي عاشها المغاربة للمرة الأولى في ظل الاستعمار.
في وقت كانت فيه الحركة الوطنية تحرم التعاطي مع كل ما هو فرنسي في المغرب، وتتوعد الذين اتبعوا التعليمات بالاغتيال والعقاب، كان «راديو ماروك» يمارس دوره في الجوقة الإعلامية الفرنسية ويخاطب المغاربة بكلام يفهمونه، عكس الحركة الوطنية التي كانت توزع منشورات باللغة العربية، في وقت كان فيه أغلب المغاربة أميين لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، وحتى الذين كانوا يعرفونها، كانوا يجدون صعوبة في إقناع البسطاء بمحتوى تلك المنشورات، سيما وأنها كانت تصاغ بعربية فصيحة لا يفهمها إلا الذين بلغوا مستويات متقدمة في مدارس الحركة الوطنية أو من خريجي المدارس العتيقة، وقلة تلقت تعليمها في الشرق، أيام كان الميسورون المغاربة يرسلون أبناءهم إلى مصر وسوريا للدراسة، حماية لهم من المد الاستعماري الفرنسي في المدارس بالمغرب.
كانت هذه الإشهارات تروج لساعات يدوية فرنسية الصنع، كانت فعلا تحظى بشعبية كبيرة في المغرب، ويقتنيها الميسورون. ومن بين المواد الاستهلاكية التي خصصت لها الشركات المنتجة إشهارا على أمواج الراديو، نجد بعض أنواع المراهم والعطور، حيث كانت تلك الإشهارات تسجل بالدارجة المغربية لتلامس أوسع الفئات.
كان وصول الإعلانات إلى الراديو بداية اكتساح الشركات الفرنسية والمغربية أيضا لسوق الإشهار، بعد أن كان الأمر في السابق مقتصرا على اللوحات الإشهارية في الشوارع فقط.
هكذا وُلد الإشهار المغربي للساعات والماركات العالمية
منذ بداية إعمار الدار البيضاء سنة 1907 على يد المهندسين الفرنسيين، وتشييد أول الفنادق غير بعيد عن ميناء الدار البيضاء، كانت اللوحات الإشهارية قد بدأت تغزو العمارات الجديدة في المدينة. وكان الحديث بين الفرنسيين الوافدين إلى المغرب، عن تشييد مدينة تكون قطبا اقتصاديا فرنسيا حقيقيا. «كازا بلانكا» سرعان ما أصبحت القبلة الأولى للمستثمرين الفرنسيين، وهؤلاء جلبوا معهم عادات استهلاكية، حيث بدأ الطلب على كبريات دور الملابس والموضة، وشركات بيع العطور والساعات الفاخرة وأجهزة الراديو والأدوات الكهربائية. وكل هذه الشركات سارعت إلى اقتناء محلات في مركز الدار البيضاء، في الوقت الذي كانت فيه المدينة في طور البناء، بعد قصف سنة 1907 الشهير.
العمارات الجديدة التي بنيت بعد ذلك التاريخ في أكبر شوارع الدار البيضاء، كانت تتوفر على محلات تم تفويتها إلى ماركات عالمية وفرنسية خصوصا، باشرت بيع منتجاتها إلى آلاف الفرنسيين الذين قرروا الاستقرار في الدار البيضاء، بعد سنة 1912.
ولم تكد عشرينيات القرن الماضي تلقي بظلالها على المغرب، حتى كان سوق الإشهار قد انتشر بقوة في الدار البيضاء. بما في ذلك إشهارات الصحف والمجلات وواجهات المتاجر، التي تحمل الصور الدعائية والجمل الرنانة الإشهارية، التي تشجع المغاربة والفرنسيين على اقتناء المواد الاستهلاكية والترفيهية أيضا.
كان هذا قبل أن يكتسح الإشهار الراديو أيضا، مع حلول ثلاثينيات القرن المنصرم.
الماركات الفرنسية، خصوصا السجائر، عرفت مقاطعة من الحركة الوطنية المغربية التي دعت المغاربة في عموم المغرب إلى مقاطعة تلك المنتجات، وهددت مخالفي تلك التعليمات من المغاربة بالانتقام. وفعلا حدثت اغتيالات نفذها شباب متحمسون لأفكار الحركة الوطنية ضد المغاربة، الذين كانوا يبيعون السجائر في الشارع العام. إشهارات السجائر كانت منتشرة بقوة في الدار البيضاء، باعتبارها المدينة الأكثر «مدنية» و«عصرنة» في المغرب. بالإضافة إلى إشهارات الخمور التي لم تكن تخلو منها المجلات الفرنسية والصحف الصادرة في المغرب. ورغم الحملات التي شنها الوطنيون المغاربة ضد إعلانات الخمور في شوارع الدار البيضاء، إلا أن الشركات الفرنسية واصلت الاستثمار في سوق الإشهار بالمغرب خلال تلك الفترة، أي ما بين سنتي 1920 و1956. بل إن الصحافة الفرنسية الصادرة في المغرب، كانت تنشر إعلانات للخمور باللغة العربية المبسطة، لكي يفهمها عموم المغاربة، مستعينين بصور لتلك الماركات العالمية، بحكم الانتشار الكبير للأمية في المغرب وقتها، والذي حال دون وصول الحملات الإشهارية في الصحف والمجلات إلى كل الشرائح.
وكيل «كوكا كولا» كان أهم من السفير الأمريكي!
شركة المشروبات الغازية الأقدم، حيث تعرف عليها الأمريكيون والأوروبيون مبكرا، لكنها لم تغزُ العالم إلا بعد الحرب العالمية الثانية.
لعب الإشهار دورا كبيرا في الترويج لهذا المشروب بالمغرب، خصوصا مع بداية سنة 1950.
وتوجد في أرشيف المجلات الأجنبية على وجه الخصوص إشارات كثيرة تؤكد أن شركة المشروبات الغازية الأكثر انتشارا في العالم، مارست دعاية لمنتوجها بالمغرب منذ سنة 1950 تقريبا، حيث عمدت إلى توزيع صور تشجع على استهلاك «كوكا كولا»، سيما في الأسواق الأسبوعية والمقاهي المنتشرة بالمدن المغربية، في عز وجود الحماية الفرنسية بالمغرب.
إذ إن السلطات الفرنسية لم تمنع الشركة الأمريكية من ممارسة نشاطها بالمغرب، علما أن هذه الأخيرة استفادت كثيرا من وجود قاعدة عسكرية أمريكية بالمغرب، حيث شكلت دعاية لهذا المشروب وسط الجنود الأمريكيين، وسرعان ما تهافت سكان «بور ليوطي»، حيث كانت القاعدة الأمريكية، على استهلاك «كوكا كولا»، وبفضل الإشهار والموزع الأمريكي في المغرب استطاعت الشركة تغطية المدن المغربية، والترويج بقوة لـ«كوكا كولا».
كانت الحركة الوطنية بالمرصاد، خصوصا في مدينة فاس التي كانت معقلا لنواة حزب الاستقلال، الرافض وقتها لكل ما هو أجنبي.
إذ لجأ أصدقاء علال الفاسي إلى اعتماد نسخة من صحيفة مصرية للإخوان المسلمين، وقاموا بنسخها وتعميمها في شوارع فاس، تدعو المغاربة إلى مقاطعة مشروب «كوكا كولا»، مؤكدين أن المشروب يحتوي على مواد محرمة، وهو ما جعل المبيعات تتهاوى في العاصمة العلمية سنة 1950، ولم يتم التغلب على تلك الإشاعة إلا بأعجوبة، حيث اعتمد مندوب الشركة على سياسة القرب وإعادة التوزيع في المحلات والأسواق، تزامنا مع شهر رمضان لسنة 1950، واستغل صورة أبناء الأعيان في فاس لمصالحة الناس مع المنتوج الأمريكي.
أحد الذين عاشوا الحدث عن قرب، الصحافية الأمريكية «مارفين هاو»، حيث كانت وقتها في زيارة إلى فاس، تعد مراسلة لمجلة أمريكية في «شيكاغو» وأيضا لراديو
«BBC» في لندن، والتقت مندوب المبيعات الأمريكي في المغرب لشركة «كوكا كولا»، وكتبت عنه قائلة إنه كان رجلا أهم من السفير الأمريكي في المغرب، وإنه كان يمارس الدعاية لما هو أمريكي باسم «كوكا كولا»، متفوقا على السياسيين الأمريكيين في التعريف ببلدهم.
وحكت «مارفين هاو» في مذكراتها كيف أنها تجولت مع المندوب الأمريكي للشركة، وسط أزقة فاس بعد الإفطار في رمضان، ورأت كيف أنه كان يحظى بشعبية كبيرة جدا بين أرباب المقاهي، وكان يعرف جيدا كيف يبيع المشروب الأكثر شعبية في العالم، بفضل السياسة الإشهارية، حيث كانت لوحات المنتج معلقة في كل مكان.